مقال

العراق: نساءُ المفقودين في بحثٍ متواصل وأملٍ خالد

شهد العراق عددًا كبيرًا من الحروب والنزاعات المسلّحة التي خلّفت مئات الآلاف من المفقودين، غالبيتهم من الرجال. وأجبرت هذه الظروف النساء على تولّي زمام الأمور في أسرهن ولعب دور "رب الأسرة" في بيئات لا تسمح بعضها للمرأة بركوب سيارة الأجرة بمفردها.

في عام 2016، غادر مئات الأشخاص من سكّان ناحية الصقلاوية في محافظة الأنبار غرب العراق مناطقهم للبحث عن الأمان في مكان آخر في رحلة فرار وسط الاشتباكات والرصاص، إذ سار حينها عشرات الرجال والنساء بمحاذاة مقبرة الصقلاوية – أخٌ يودع أخته ويأتمنها على أولاده ونفسها، وزوجٌ يطمئن زوجته قبل الفراق ويعطيها بعض المال إلى أن يلتقيا، ووالدٌ يلتفت صوب ابنته لنظرةٍ أخيرة، وابنٌ لم تسنح له فرصة معانقة والدته قبيل الوداع.
بين ليلةٍ وضحاها، اضطرت مئات النساء إلى أن يأخذن على عاتقهن مسؤوليات رجالهن المفقودين، لتصبح كلٌ منهن المعيل و"عمود المنزل". جابهت هؤلاء النساء الكثير من التحديات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية على مرّ السنين ولكن ذلك لم يحبطهن بل على العكس عزّز من إرادتهن. "أتمنى أن يعودوا يومًا ما ويجدونا بأفضل حال، أظن أن ذلك سيسعدهم" تقول آسيا، وهي امرأة عزباء بعمر 45 سنة تنتظر أي خبر عن إخوتها الأربعة المفقودين.

آسيا
آسيا هي الأخت الكبرى لأخوتها وأخواتها الثمانية، تحملت مسؤولية تربيتهم والاعتناء بهم وبوالدتها المريضة منذ عمرٍ مبكّر بعد وفاة والدها، فكانت لهم الأم والأب والأخت. تحنّ آسيا الى حياتها قبل وقوع النزاع، إذ تستذكر كيف كانوا يترقّبون عودة أخوتها من العمل مع غروب الشمس، أما الآن فكل ما يحمله لهم الغروب هو الصمت المطبق. "لم يعد مذاق الطعام مثلما كان سابقًا" تذكر آسيا.
ومع ذلك تستمر حياتها التي تقضيها في تربية ابنيّ أخيها، ليث وغيث. وبغياب والدهما وهجر والدتهما لهما، عزمت آسيا على توفير نشأةٍ طبيعية للولدين إذ أنها تحرص على ذهابهما إلى المدرسة وتلقّي التعاليم الإسلامية.
لقد قطعت آسيا شوطًا طويلًا منذ غياب إخوتها، إذ واجهت الكثير من الصعوبات في وجه الأعراف المجتمعية بدءًا من ركوب سيارة الأجرةٍ وشراء البقالة وانتهاءً بزيارة الطبيب ومراجعة المحكمة بمفردها. قد يجد البعض هذه المسؤوليات أمرًا اعتياديًا أو غير ذي أهمية، أما بالنسبة لآسيا فهو يعني الوقوف في وجه الأعراف الاجتماعية والتوقعات والآراء التقليدية.
من أصعب التحديات التي مرّت بها آسيا هو اصطحاب الولدين إلى الحلّاق، من دون وجود رجلٍ يصطحبهما، إذ تُجبر على الانتظار في مكان يعمّه الرجال. تقول آسيا "أما الآن أدخل إلى محل الحلاقة ولا يهمني حتى لو كان في المكان ستون رجلًا! أجلس وأنتظر أولادي حتى ينتهوا".
آسيا واحدة من 24 مشترك في برنامج الصقلاوية للمرافقة الذي ينفذه الصليب الأحمر الدولي لتصبح "مُرافِقة". يهدف هذا البرنامج إلى مساعدة عوائل المفقودين في التعامل مع المشاكل العاطفية والاقتصادية والقانونية والإدارية ويجمعهم معًا لتقديم الدعم الذي يناسبهم.

حَمدَة
على الرغم من أن عوائل المفقودين يتشاركون العديد من الصعوبات، إلّا أنّهم ينفردون بقصصهم الشخصية. تبلغ حمدة من العمر 68 عامًا وتتحدث عن زوجها المفقود، إسماعيل. يشعّ تصميم حمدة وقوتها من خلال كلامها "أنا صلبة، ربطت حزامي واستجمعت قوتي" مشيرةً إلى الصورة التقليدية لربط شيءٍ حول الخصر في أوقات المصائب لدعم الجسد.

حمدة، الأكبر سنًا بين مشتركي برنامج المرافقين

حمدة، الأكبر سنًا بين مشتركي برنامج المرافقين - تصوير: ليلى مرزة 

كما لا تغيب الطرفة عن حمدة الطرفة في كل جوانب الحياة ويتضح ذلك من خلال ذكرها لقصة زواجها. تزوجت على الطريقة التقليدية وفي يوم زفافها أحضر لها أهل زوجها ثوب زفافٍ قديمٍ وساعدوها في وضع مكياجها وتصفيف شعرها "سامحهم الله، لم يأخذوني إلى صالون التجميل حتى!" تقول ذلك بطريقة تحاول أن تبدو فيها مستاءة إلا أنها تفشل في إخفاء ضحكتها. وفي ذلك اليوم عندما جاء زوجها لاصطحابها، تعطلت السيارة في منتصف الطريق، ومما زاد الطين بلة بعد وصولهما هو عدم وجود ما يأكلانه على العشاء. تستذكر وهي تضحك كيف اضطرت إلى أكل باذنجانة غير مطبوخة من مزرعة زوجها بسبب الجوع الشديد. وتستمر حمدة في التكلم بنبرةٍ مندفعة ولعوبة بعد أن أحضرت صورة زوجها "إياكِ أن تلمّحي بأنه وسيم، فقد أشتاق إليه مرةً أخرى."

حمدة تحمل صورة زوجها المفقود

حمدة تحمل صورة زوجها المفقود - تصوير: ليلى مرزة

تصف حمدة حياتها قبل النزاع بأنها تتسم بالقناعة. كان اسماعيل يعمل كبستاني بأجرة تبلغ 7,000 دينار عراقي في اليوم، وتعاون هو وحمدة على تربية ابن أخيه الذي يبلغ من العمر الآن 25 عامًا. تشتاق حمدة إلى ذكرياتهما معًا – كيف كانا يجلسان سويةً وكيف كان زوجها يخرج راكبًا دراجته الهوائية للذهاب إلى العمل ويعود محمّلًا بأكياس البقالة. أما الآن، عليها الاستيقاظ مبكرًا كل صباح للزراعة وتشغيل مضخّة المياه وكسب الرزق لعائلتها حيث تقول "استمر في الكفاح في سبيل هذا الصبي وحياتنا." 

حمدة ونسيبتها إلهام

حمدة ونسيبتها إلهام - تصوير: ليلى مرزة

على الرغم من أنها لا تعلم مصير اسماعيل أو بقية المفقودين، إلّا أنها لا تنفك تدعو لهم سواءً كانوا أحياءً أم أموات. لم تتخلف حمدة عن أي جلسة من جلسات برنامج المرافقة، إذ أنها عازمةٌ على مشاركة تجاربها وقوتها ومدِّ يد العون إلى الآخرين ممن مرّوا بتجارب مشابهة.

لا شك في أن آسيا وحمدة والنساء الأخريات من ذوي المفقودين قد واجهن تحديات لا يمكن تخيلها، إلا أنه وعلى الرغم من الاختلافات الفردية بينهن، ثمة ثابت مشترك بينهن لا يمكن إنكاره يتمثل بصمودهن وتمسكهن بالأمل في عودة أحبائهن المفقودين.