مقال

سورية: أرض مدمرة وشعب طي النسيان

بقلم ماريان غاسير، رئيسة بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في دمشق

جثة الطفل الهامدة التي عثر عليها مؤخراً على شاطئ تركي تعرف العالم عليها في ما بعد على أنها تعود لعيلان كردي، من كوباني (عين العرب) في سورية. إنه واحد من مئات الأطفال السوريين واللاجئين الذين غرقوا خلال الأشهر المنصرمة في البحار التي تفصل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عن أوروبا.

وهناك أطفال كثر مثله، لا يعرفهم العالم، يموتون كل يوم في أصقاع مختلفة في سورية، حيث يستمر القتال منذ أكثر من أربع سنوات، وحيث لا نرى للأسف الشديد أي بشائر بحلول السلام عما قريب.

لقد أمضيت السنوات الخمس الأخيرة في مجال العمل الإنساني في سورية. كنت هنا عندما بدأ كل شيء في العام 2011، وكنت هنا عندما أخذ العنف بالاستفحال في كافة أرجاء البلاد، وما زلت هنا اليوم والناس لم تعد ترى بديلاً سوى ترك منازلها والبحث عن ملاذٍ آمن في مكان آخر.

لقد تحولت المدن السورية الجميلة والنظيفة التي كانت تعج بالحياة إلى ظلالٍ قاتمة مخيفة. واليوم، وبدلاً من السير في الشوارع الجميلة المزدانة بالهندسة الرائعة، أسير بين أنقاض المنازل المدمرة في حمص وحلب وريف دمشق.

وعندما سيجتمع ممثلو "الاتحاد الأوروبي" في الأيام المقبلة لمناقشة أزمة "المهاجرين"، عليهم أن يعرفوا أن أولئك الذين غادروا سورية لم يفعلوا ذلك من دون سبب.

أكثر من 220 ألف قتيل حتى الآن، وأكثر من 12 مليون شخص أجبروا على مغادرة منازلهم. قرابة الأربعة ملايين غادروا البلاد. والآلاف يقومون بالرحلة المليئة بالأخطار عبر البحار. بعضهم ينجو والبعض الآخر يلقى مصير عيلان كردي.

وخلال الشهر المنصرم، قمت مع بعض الزملاء من اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومن جمعية الهلال الأحمر العربي السوري بعبور خطوط القتال في الجزء الشرقي من حلب، الذي تسيطر عليه مجموعات مختلفة من المعارضة المسلحة. لقد قمنا بزيارة بعض المراكز الصحية حيث كان طاقم طبي شجاع يعتني بالجرحى والمرضى مستخدماً القليل من المعدات التي توفرت له. وزرنا مخابز تستخدم بحذر شديد كل غرام توفر من الطحين. لقد رأينا بأم العين الحالة المزرية التي يعيش فيها الكثير من الناس.

وفي بلاد تنقص فيها الاحتياجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة كالماء والمأوى والتيار الكهربائي، وتنهال فيها الصواريخ والقذائف على رؤوس المدنيين مدمرة حياتهم وممتلكاتهم؛ في بلاد يخاطر فيها العاملون في المجال الإنساني بحياتهم كل يوم لتقديم المساعدة إلى الملايين ممن يعانون، تكافح الإنسانية في سورية للاستمرار في الوجود.

فهناك مناطق محاصرة لا يمكن إيصال المساعدات الإنسانية إلى داخلها، مناطق يولد فيها الأطفال من دون أن تتوفر لأمهاتهم الرعاية الطبية الأساسية، ومناطق تستخدم فيها المياه كوسيلة حرب فتُقطع عنها عمداً. كما أن الاقتصاد في سورية في حالة يرثى لها.

وتعتمد جوانب كثيرة من الحياة في سورية على الدعم الخارجي. فكل شهر، يستلم ملايين الأشخاص المساعدات الغذائية وغير الغذائية من اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومن جمعية الهلال الأحمر العربي السوري ومن منظمات إنسانية أخرى. ولا يمكن لأنظمة تزويد المياه أن تعمل من دون دعم اللجنة الدولية والهلال الأحمر العربي السوري ومنظمات إنسانية أخرى. والأمر سيان بالنسبة إلى دعم قطاع الصحة العامة في سورية بما في ذلك إعادة التأهيل الجسدي الذي يعتمد بدوره على دعم المنظمات المحلية والدولية.

عندما يختار السوريون أن يغادروا منازلهم، يسميهم البعض لاجئين والبعض الآخر مهاجرين. التسمية لا تهم، كما الأُطر التي يضعونهم فيها. ما يحتاجه هؤلاء هو القليل من الكرامة والمساعدة والدعم لإعادة بناء حياتهم في بلدان غريبة.

إن أحداً لا يختار بكامل إرادته أن يخاطر بحياته ويسير في رحلة نحو المجهول محفوفة بالمخاطر. ولكن، إن استحالت حماية الناس من آثار الحرب المدمرة وإن استمرت ظروف معيشتهم تسمح لهم بالكاد بالبقاء على قيد الحياة، فعلى العالم أجمع أن يتحضر لاستقبال آلاف آخرين آتين من سورية.

لقد تحول هذه النزاع إلى أخطر مأساة يشهدها هذا العصر. فاحترام الحياة فقد معناه والفظائع المرتكبة وهدر الدماء عادوا بنا إلى العصور الوسطى. والحلول السياسية والإنسانية التي يمكن أن تضع حداً لهذه المعاناة تتطلب جهوداً جبارة ومستدامة. لكن الحلول السياسية تتطلب وقتاً. لذلك، هناك واجب إنساني لتقديم المساعدة إلى كل الذين يحتاجونها. وهناك مسؤولية تقع على عاتق جميع أطراف النزاع بحماية حرمة العمل الإنساني المستقل وغير المتحيز وإبقائها بعيداً عن سياسات هذا النزاع.

إن لم يكن باستطاعتهم إنقاذ حياة الناس، فأين الفائدة من لعب سياسات حول أرضٍ خالية، ومدمرة، ومحروقة ومهجورة؟

نشر هذا المقال على موقع BBC بتاريخ 15 أيلول/سبتمبر 2015.