مقال

حيٌّ يُرزق حتى يثبتَ العكس- أملٌ راسخ لدى عائلات الأشخاص المفقودين في ليبيا

لقد شاهد العالم كله تلك الصور: مُهاجرون يحاولون عبور أعالي البحار من شواطئ ليبيا في محاولة يائسة للوصول إلى أوروبا. إلا ان الكثير منهم لم يتمكنوا من الوصول، إذ ألقت بهم الأمواج جثثاً هامدة على الشواطئ، مجهولين، فيما بقيت الحياة التي عاشوها والعائلات التي تركوها خلفهم في وطنهم في غموض وحيرة.

تركز التغطية الخاصة بقصة الهجرة في ليبيا غالباً على هذه الرحلة الغادرة التي تجشموا عناء السير فيها، بيد أن ما تفتقده تلك القصة هوما تركه هؤلاء خلفهم: العائلات في ليبيا، وإثيوبيا، وإريتيريا ، والسودان، والصومال، وأماكن أخرى، الذين عانقوا وقبّلوا أحبتهم في وداعهم الأخير، لينتهي بهم المطاف دون أثر.

 يصادف 30 من آب/أغسطس اليوم العالمي لضحايا الاختفاء، والهدف من هذا اليوم هو أن يذكرنا جميعا بالأسى الذي تعانيه عائلات المفقودين وهم ينتظرون سماع أي خبر حول مصير أحبّتهم. ففي ليبيا، حيث الصراع والهجرة يمزقان العائلات، فإن المسألة ملحة للغاية.

 هناك ما يزيد عن 1600 شخصاً مسجلين في عداد المفقودين لدى اللجنة الدولية للصليب الأحمر في ليبيا. إلا أنه وراء هذا العدد، هناك آلاف من العائلات التي تواصلت مع شبكة جمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر داخل ليبيا أو خارجها، بحثاً عن أقاربهم في ليبيا. والكثير من هؤلاء المفقودين من الأطفال، غير أنه وبالنظر إلى هول تدفق الهجرة داخل البلاد وخارجها وسنوات النزاع، فإن هذا العدد من الحالات ربما هو فقط رأس جبل الجليد وما خفي أعظم. 

إن المهاجرين المفقودين ليسوا فقط من بين من بات مصيرهم مجهولاً. فتسع سنوات من الحرب في ليبيا قد حملت حقائق محزنة ومخيفة: فالناس الذين ينظر إليهم كخصوم، أو مصدر تهديد أمني، ويلقى القبض عليهم، لا يعودون، وهناك العائلات التي تهرب في كل حدب وصوب لتنجو من الهجمات، وهناك المقاتلون الذين لقوا حتفهم في أرض المعركة ودُفنوا في مقابر بلا شواهد تحمل أسماءهم، أو دون أن يُعرف شيء عنهم.

إن هذه المآسي لا تنحصر في ليبيا وحدها وقد رأيناها في مناطق الحروب حول العالم. إن ما لاحظته خلال عملي في اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنه، وبمعزل عن البلد والمعركة، فإن ذلك الألم الذي تعانيه العائلات عندما يكون أحد أفرادها في عداد المفقودين إنما هو ألم عالمي. 

بالنسبة لكل شخص تم الإبلاغ عن اختفائه، هناك فرد من عائلته يبحث عنه وينتظر خبراً عنه: أم، أب، زوجة، ابن، أخ أو اخت، أو صديق طفولة. وبالنسبة لهؤلاء، فالزمن ليس كفيلاً بشفاء آلامهم، وحدها الأجوبة كفيلة بذلك. 

 قبل ثلاث سنوات كان رشيد (تم تغيير الاسم الحقيقي) عائداً من حفل زفاف برفقة عائلته عندما قامت مجموعة مسلحة بأخذه. لقد بحث والده عنه في كل مكان، ليعود إلى المنزل خالي الوفاض دون ولده، أو أجوبة حول مصيره. لقد تواصل والده مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر وأودع طلب تتبع أثر، ما سمح للجنة الدولية للصليب الأحمر بمخاطبة السلطات لمعرفة وضع رشيد. ومؤخرا،ً خلال الأسبوع المنصرم، اتصل والده أملاً في أن يكون هناك مستجدات بخصوص طلبه. سيبلغ رشيد  من العمر الآن 28 عاماً وبالنسبة لوالديه وإخوته، فإن اختفائه ترك فراغاً لا يملؤه أحد سواه في حياتهم.

 وينطبق الشيء نفسه على أخت حميد (تم تغيير الاسم بناءً على الطلب) ، التي غادرت ليبيا مع زوجها وابنها على متن قارب إلى إيطاليا في عام 2019. وانقلب بهم القارب بالقرب من الشواطئ الإيطالية، وبينما تم إنقاذ العديد ، إلا أن أكثر من عشرة أشخاص، بمن فيهم أخت حميد، لم يُعثر عليهم. أخفى حميد هذا السر عن والدته لتجنيبها الحزن على اختفاء ابنتها.

أما بالنسبة للعاملين في المجال الإنساني، فإن مساعدة العائلات على تسجيل، والبحث عن، الأقارب المفقودين إنما عمل صعب من الناحية العاطفية. لقد ذكرت لي زميلةُ ليبية أن العائلات غالباً ما  تتوجه إلينا يحدوها أمل كبير فقط لتدرك فيما بعد كم أن الأمر بالغ التعقيد في الحصول على أجوبة حول ما حدث لأحبتهم. وزميلتي، كما هو حال الكثيرين من زملائنا الذين يكرسون وقتهم لعملهم، يجب أن توازن بين إظهار التعاطف وإدارة تلك التوقعات بلطف حتى لا يكون هناك المزيد من الخيبة والإنكسار. إلا أنه من ناحية أخرى، فإن العائلات تشعر بالإمتنان لأنهم وجدوا من يثقوا به ويسمعهم، إذ ليس بمقدروهم مشاركة هذا الأمر مع أفراد عائلاتهم الذين يعانون من الألم ذاته. 

 إن محنة عائلات الأشخاص المفقودين كبيرة وتبعث على الأسى. وإن محاولة معالجة هذه المحنة تتطلّب تفهماً لاحتياجاتهم والإقرار بالمأساة التي تتأتى من العيش دون خبر حول مصير أفراد عائلاتهم وما يخلّفه ذلك من أثر مدمّر عليهم. وأما أولئك المفقودين الذين وجدوا ميتين، فإن أقل ما ندين به لهم و لعائلاتهم هو المطالبة بدفنهم ومعاملتهم بطريقة تحفظ كرامتهم وتحترم الأعراف والتقاليد المحلية.

 ويبقى هناك أمل رغم سوداوية المشهد: ففي العام المنصرم استطعنا أن نقدم الدعم من خلال توضيح مصير ومكان وجود 41 شخصاً كانت عائلاتهم قد أبلغت عن اختفائهم في ليبيا في السابق. وإن ندائنا في اليوم العالمي لضحايا الاختفاء هو أن عائلاتهم تستحق الدعم، وتستحق أن تحصل على الأجوبة بشأن مصير مفقوديهم، وأن هناك مسؤولية تقع على عاتق السلطات وأطراف النزاع، من كل الاتجاهات، أن يبذلوا كل ما بوسعهم لمساعدة عائلات المفقودين وكذلك حتى لا يكون هناك مزيد من المفقودين في المقام الأول.

كتابة: جان نيكولا مارتي

رئيس بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في ليبيا
النص الأصلي مكتوب بالإنجليزية ومنشور في صحيفة ذا ناشونال