مقال

ليبيا : "لا جدار صدّ يقي من الصدمات الاقتصادية"

في عام 2019 دخلت ليبيا عامها الثامن على التوالي من غياب الأمن والنزاع الممتد. حيث يواجه اقتصادها أزمة، و تعرضت البنية التحتية الأساسية للضرر، كما قوضت التهديدات الأمنية والنقص الحاد في السيولة المالية التوقعاتِ المستقبلية للسكان الليبيين وأضرّت سبل كسبهم العيش وأعاقت حصولهم على الخدمات الاجتماعية الأساسية.

وفي ظل الاحتياجات الإنسانية الهائلة الناجمة عن النزاع تبذل المنظمات الإنسانية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر (اللجنة الدولية) قصارى جهدها لتلبية الاحتياجات. وتقدم اللجنة الدولية المساعدة للمحتاجين في ليبيا حيث يعيش المحتاجون في أوضاع شديدة الصعوبة بسبب النزاع. ونحن نضطلع بتوزيع المساعدات الغذائية والمستلزمات الأساسية الأخرى وندعم المشاريع الصغيرة التي تهدف إلى تمكين المتضررين من جراء النزاع، ممن لديهم أفكار لتنفيذ مشاريع تحقق الكفاية الاقتصادية لدعم عائلاتهم. وبالإضافة إلى ذلك، نعمل على إصلاح إمدادات المياه وندعم الخدمات الطبية، وكل ذلك في إطار شراكتنا مع الهلال الأحمر الليبي.

في هذه المقابلة مع السيد "محمد شيخ علي"، يناقش منسق الأمن الاقتصادي من بعثة اللجنة الدولية بليبيا الأزمة الحالية في البلاد وصعوبة تقديم استجابة إنسانية محايدة وغير متحيزة في مثل هذا السياق. كما يتحدث عن الظروف الاقتصادية والتحديات التي يواجهها السكان ونظرته بشأن المستقبل.

  • هل يمكنك وصف الظروف المعيشية والوضع الاقتصادي في ليبيا اليوم؟

تمر ليبيا بوقت عصيب، فعدد كبير من السكان نازحون ويواجهون نقصًا في الخدمات. وتعاني معظم المناطق في ليبيا من انقطاع الكهرباء ونقص المياه وتضرر البنية التحتية وعجز السوق والخدمات المصرفية عن أداء وظائفها. كل شيء كان يُعد في ما مضى من مظاهر الحياة الطبيعية لدى الليبييين لم يعد كذلك.

كان الاقتصاد الليبي في الغالب يعتمد على الدولة، وكان 70٪ من السكان يعملون في وظائف حكومية، و80٪ من دخل الأسر كان يأتي من الرواتب الحكومية. غير أن هذه الصورة لم يعد لها وجود الآن. فاليوم، يعاني قطاع كبير من السكان انعدام الأمن الغذائي. ويميل نحو 64٪ من السكان الآن إلى استراتيجيات تكيف سلبية، بما في ذلك بيع الأصول، ويُنفق 75٪ من دخل الأسر على الغذاء وحده، وهذا يعرض هذه الأسر للصدمات. وهكذا فليس هناك حواجز صد للوقاية من الصدمات الاقتصادية. وهذا يؤدي إلى وضعٍ قاسٍ من انعدام الأمن الاقتصادي.

وفي ظل عدم الانتظام في دفع الأجور وأزمة السيولة الحالية، يكافح أكثر من نصف الأسر من أجل تغطية نفقاتهم. وقد قلّل هذا بدوره من نمو القطاع الخاص وأعاق خلْق فرص عمل، ما زاد تفاقم الوضع الاقتصادي العام. أما الأسر التي تعيلها إناث على وجه الخصوص فقد تضاعف تضررها في ظل واقع الثقافة المحلية التقليدية والمحافظة التي يُتوقع فيها أن يكون الرجل هو العائل لأسرته. ومن ثمّ، كثيرًا ما تتعرض صاحبات المشاريع أو اللائي يسعين للتوظيف إلى الوصم.

إن التوظيف في القطاع الخاص منخفض بشكل عام، فعدم انتظام دفع الرواتب في القطاع الحكومي يترك الناس دون نقود. وقد أعاق هذا الاعتماد المتوارث على الرواتب الحكومية ظهور ثقافة ريادة الأعمال أو حتى السعي نحو سبل عيش بديلة. ولا عجب إذن أن غالبية السكان يتحدثون عن لجوئهم إلى آليات تكيف سلبية ليتمكنوا من دفع تكاليف الرعاية الصحية، ويواجه نحو 80٪ من السكان تحديات بشأن الحصول على أموال كافية لتلبية احتياجاتهم. على سبيل المثال، في الجفرة التي يوجد بها أعلى نسبة من السكان (10٪) الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد، أفاد 64٪ من سكانها أنهم لجؤوا إلى استراتيجيات تكيف سلبية. وهناك دلائل تشير إلى أن الكثير من الناس في ليبيا ينزلقون إلى مستنقع الفقر المدقع. في حين ينفق ثلث سكان مصراتة والجفرة أكثر من 75٪ من دخلهم على الغذاء. ومن المرجح أن تكون هذه الأسر أكثر عرضة لخطر الصدمات الاقتصادية حيث لا تتوفر سوى ميزانية إضافية محدودة لأي نفقات أخرى تزيد على الاحتياجات التي لا غنى عنها. وعلاوة على ذلك، تحدث نحو 44٪ من الأسر في سرت عن لجوئهم إلى آليات تكيف سلبية – بما في ذلك اللجوء إلى استراتيجيات الطوارئ – لتأمين ثمن الغذاء، وهذا هو أعلى معدل في ليبيا. وتشمل استراتيجيات الطوارئ بيع الأصول المنتِجة، وطلب الطعام أو المال من الغرباء، وقبول أداء أعمال مهينة أو غير قانونية.

  • ما التحديات الرئيسية التي يواجهها السكان؟ وماذا عن التحديات متوسطة / طويلة الأجل؟

"أعتقد أن التحدي الرئيسي هو النزاع والأمن. وعلى المدى البعيد، فإن التحدي الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي في البلاد سيكتسحان كل شيء."

أدّت الأزمة الأمنية والاقتصادية المتداخلة في البلاد إلى انخفاض حاد في الأنشطة الصناعية وفرص العمل. على سبيل المثال، في طرابلس وما حولها، كان هناك أربعة مصانع عصائر كبيرة، ومصنع ألبان، ومصنع للمشروبات الغازية، ومصنع للمكرونة، ومصنع سكر و أرز. هذه المصانع الكبيرة لا يعمل أي منها الآن بكامل طاقته، وجميعها خفّضت أعداد القوى العاملة فيها.

إن القطاع الخاص الآخذ في التلاشي، وارتفاع تكلفة المعيشة دون زيادة مكافِئة في الرواتب، لا سيما في القطاع الحكومي الذي يعمل فيه غالبية الليبيين، أثّرا سلبًا على صمود السكان ورفاههم العام.

وبصورة غير متوقعة، فإن المحافظات الجنوبية التي كانت "سلة الغذاء" بالنسبة لليبيا، هي الأكثر تضررًا من انعدام الأمن الاقتصادي. حيث أن غياب فرض القانون والنظام على نطاق واسع والتضخم المفرط  في الأسعار، جعلا توفير الاحتياجات الأساسية أمرًا صعبًا. وسجلت الأسعار أعلى مستوى لها في البلاد في مدن جنوبية مثل براك ومرزق وأوباري وغات، حيث تتكلف سلة الغذاء أعلى مما في باقي أنحاء البلاد بنسبة 49%. ويُعزى ذلك إلى انعدام الأمن بصورة كبيرة وانقطاع طرق التجارة وانشغال الحكومتين المتنافستين بفرض سيطرتهما في الشمال. وفي حين بدا أن العملية العسكرية الكبرى التي انطلقت في شباط/فبراير 2019 أدت إلى استقرار الوضع ببطء ولكن بثبات، فقد تسببت النزاعات القبلية والقتال في نزوح مجتمعات بأكملها، مثل بعض الطوارق، من بلداتهم الأصلية.

 

نساء ذوات إعاقات بدنية يتلقين تدريبًا على تخطيط المشاريع التجارية في مبادرة المشاريع الصغيرةفي بنغازي. Fares Elabeid/ ICRC

  • ما المناطق الأكثر احتياجًا للمساعدات في ليبيا؟

يَرِدُنا أن المناطق الأكثر احتياجًا للمساعدات هي المناطق المتضررة مباشرة من جراء النزاع في طرابلس. ومع ذلك، فإن هذا لن يخفي العديد من الاحتياجات الملحة الأخرى في المناطق الأهدأ نسبيًا في البلاد. إذ توجد أعداد كبيرة من المجموعات المستضعفة بما في ذلك النساء اللائي يعلن أطفالًا بمفردهن، والأشخاص الذين يعانون من إعاقة بدنية، وأسر المفقودين، والمزارعون، والمجتمعات الرعوية في الوديان الجنوبية.

ويوجد في مصراتة، على سبيل المثال، زهاء 2000 امرأة يعلن أطفالهن بمفردهن، وعلى المستوى نفسه يوجد عدد كبير من الأشخاص ذوي الإعاقات البدنية.

  • ما طبيعة الاستجابة الإنسانية التي تقدمها اللجنة الدولية على مدى العام؟

بقدر ما نواجه من صعوبة، فإننا نحاول أن نلبي الاحتياجات في أغلب مناطق البلاد. وما تزال هناك مناطق لا يمكننا الوصول إليها، ولكن شراكتنا مع جمعية الهلال الأحمر الليبي، التي يمكنها الوصول إلى تلك المناطق، تكفل تقديم الدعم في الاستجابة للاحتياجات الملحة. وتتراوح المساعدات بين تقديم مواد الإغاثة وتقديم المساعدة عن بعد وبرامج متنوعة تهدف إلى تلبية الاحتياجات الطارئة الحالية، وفي الوقت نفسه يُقدَّم دعم للمجتمعات المحلية لبناء قدرتها على الصمود عن طريق تشجيع استئناف الأنشطة الاقتصادية المستقلة.

وبقدر استجابتنا للاحتياجات الملّحة نحاول التركيز على المساعدة ذات المدى البعيد. وتساعد مبادرات المشاريع الصغيرة، والأنشطة الزراعية، والمساعدات النقدية وغيرها، التجارَ والسوق المحلية على الاستفادة من مساعدتنا، ومن خلالها نولد ديناميات السوق ونحسّن أداءها ونستخدم قوى السوق من خلال توزيع المساعدات النقدية. ويمكن للمشاريع التجارية المحلية الاستفادة من مساعداتنا وكذلك توليد ديناميات السوق. وعندما نقدم المساعدات النقدية، فإننا لا نتطلع فقط إلى تلبية الاحتياجات المباشرة للأسر التي نساعدها، وإنما نحاول تشجيع الأنشطة الاقتصادية في المنطقة.

على سبيل المثال، تتلقى الأرامل وذوو الإعاقات البدنية منحًا في إطار مبادرات المشاريع الصغيرة حتى يتمكنوا من بدء مشاريع خاصة بهم . ونحن ندربهم حتى يتمكنوا من البدء في تقديم خدمات بصورة مستقلة.

لذلك، صُمم برنامجنا بطريقة تلبي الاحتياجات العاجلة وتساعد في الوقت نفسه المجتمعات المحلية على التعافي واستئناف أنشطتها المعتادة.

 

نساء يتلقين تدريبًا على الحياكة في إطار مبادرة المشاريع الصغيرةفي مصراتة. Mohamed Abdulhakim Lagha/ ICRC

  • هل هناك أي قصص يمكنك مشاركتها معنا تتعلق بأشخاص تضرروا بشكل بالغ من جراء هذه الأزمة؟

في بنغازي، ندعم مجموعة من النساء ذوات إعاقات بدنية أسسّن جمعية حيث يُنتجن حلويات ويبعنها لتدرّ عليهم دخلًا. في الوقت نفسه، تُستخدم المرافق والخدمات التي نقدمها لتدريب هؤلاء النساء وتوجيههن، إذ ما غالبًا يتعرضن للتهميش وكثيرًا ما يعانين من مشاكل نفسية. وبعد أن صرن في وضع قيادة، أصبح هؤلاء النساء يشعرن أنهن يمكن أن يكنّ جزءًا من المجتمع ويساهمن في قضية ذات معنى. ونحن بقدر ما نؤمن بالقضية الإنسانية فهذه المشاهد هي بالضبط ما يشجعنا ويبقينا في حالة حركة وسعي وتوسع.

  • ما نظرتك بشأن المستقبل؟

"للأسف، المستقبل لا يبشر بخير، وآمل أن ينتهي النزاع قريبًا"، ولسوف يؤدي هذا التدهور الاقتصادي، إن لم تتم مجابهته، إلى انزلاق قطاع كبير من السكان إلى فقر مدقع.

  • ما الذي يمنحك الأمل؟

"الأشياء التي تعطيني الأمل هي التزام الأشخاص الذين نعمل معهم. عندما أرى شبابًا اعتادوا في الماضي الحصول على رواتب من الحكومة يأتوننا ويطلبون الحصول على تدريب مهني ويبدون استعدادًا للعمل، فإن هذا بحد ذاته يمنحني الأمل. وكذلك الالتزام الذي تبديه السلطات المحلية؛ إذ يحاول العاملون فيها، رغم النزاع، الابتعاد عن التجاذبات السياسية وتقديم الخدمات للناس وصيانة البنية التحتية المتدهورة، والمياه، والصحة، والأسواق.

"في النهاية آمل أن تحصل هذه المبادرات الشعبية على الدعم الذي تحتاج إليه وتستحقه."