مقال

جنوب السودان: رحلة الفرار في لير

ينبغي وضع حد للعنف والاضطرابات في جنوب السودان. وصل السيد "دانييل ليتلجون - كاريو" إلى جنوب السودان لتولي مهام منصبه مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر بعد وقت قصير من اندلاع أعمال العنف الأخيرة في أنحاء مختلفة من لير في أيار/ مايو. (نقلا عن مقال نشر على موقع الجزيرة).

انبعث صوت صفير ضعيف أثناء قيامنا بتفريغ إطارات السيارة طراز لاندكروزر بينما كان أحد الزملاء يضع طلاء أبيض اللون على الشارات التي تحمل صليبًا أحمر اللون وتكفل الحماية للسيارات وتشير إلى أنها مملوكة للجنة الدولية. وأصبح هناك خمس من هذه السيارات قابعة في مكانها أو هكذا كنا نظن.. والأخرى المتبقية كانت ستحملنا إلى مدرج المطار بعد فترة قصيرة.

وفي الوقت الذي يهدد فيه القتال مدينة لير في جنوب السودان كنا نقوم بتقليص نطاق عملياتنا هناك. وتقرر إجلائي إلى جوبا وأن يمكث الزملاء المحليون في مكانهم وكلنا أمل في أن نتمكن من مساعدة السكان من خلال توزيع المواد الغذائية حتى آخر لحظة.

وهبطت الطائرة المروحية التابعة للجنة الدولية أمام المقر لتنقل بعض المرضى الذين تعذر عليهم السير من المستشفى المجاور التابع لمنظمة أطباء بلا حدود. فلم يستطع هؤلاء المرضى الفرار شأنهم كشأن ما يزيد على 100000 شخص من المقيمين في لير وحولها بعد أن بات تعرضهم للنزوح مرة أخرى إلى داخل منطقة الأدغال شديد الاحتمال.

جنوب السودان، قصة الأزمة المنسية

يقطع معظم النازحين مسافات طويلة على مدار ساعات لكي يناموا في النهاية بجوار المستنقعات حيث يجدون الأمان، ويفترشون الأرض وربما يتمكنون من الحصول على مأوى أو ما شابه. ويقتات الكثيرون منهم على زهور الزنبق التي تطفو على سطح المياه وثمار جوز الهند. يعيش هؤلاء هذه الظروف الصعبة بسبب أعمال العنف المتكررة التي ابتليت بها المنطقة في الآونة الأخيرة.

الجوع يعاود طرق الأبواب

أجريت عملية إجلاء عاجلة في الشهر الماضي في اليوم الثالث لوصولي إلى جنوب السودان، الأمر الذي شكل تحديًا صعبًا وأنا على أعتاب مهمتي الجديدة في لير لتولى مسؤولية مختلف عمليات اللجنة الدولية في جميع أنحاء ولاية الوحدة.


ومن بين الأنشطة التي تنفذها فرق اللجنة الدولية، توزيع المواد الغذائية على نحو 120000 شخص ودعم المستشفى المحلي وتدريب المقاتلين للتذكير بالتزامهم بعدم استهداف المدنيين خلال الحرب. وحينما تجبر فرقنا على الفرار، تتوقف هذه الأنشطة ويعود الجوع مرة أخرى ويحرم المصابون والمرضى من تلقي العلاج اللازم لهم.

وبالرغم من عودتنا إلى جوبا، لم ينقطع تواصلنا بفضل أحد الهواتف الساتلية التي زودنا بها "جون" وهو من أكثر العاملين معنا خبرة على مستوى الموظفين المحليين، وبات همزة الوصل بيننا وبين لير وسكانها الفارين. وعندما اقترب القتال من مقرنا، انتقل "جون" للمرة الأولى بصحبة أسرته إلى قريته مترقبًا ما سوف يطرأ. وعندما اقترب الخطر منه اضطر إلى الانتقال إلى المستنقعات حيث قطع مسافة سيرًا على العشب حتى بلغ قطعة أرض يابسة احتمى بها المئات بالرغم من صغر مساحتها.

وبعد مرور أسبوعين توقف القتال، على الأقل بشكل مؤقت، وتمكنا من العودة إلى لير في أواخر الشهر الماضي لتفقد الأوضاع. وكنت أترقب ما سوف أجده بقلق وأتساءل عما إذا كان الزملاء بخير وكيف أصبحت المدينة الآن بعد الأحداث ومتى سنتمكن من استئناف عملياتنا.

ولحسن الحظ، عاد بعض العاملين معنا لدى وصولنا حاملين معهم أخبار زملائهم. وبرغم الظروف التي مروا بها، كانت لديهم رغبة قوية في استئناف عملهم. أذهلني موقفهم، فقبل كل شيء، هؤلاء الناس هم أقاربهم وجيرانهم وأصدقاؤهم ويريدون مساعدتهم. كانت المدينة خاوية على عروشها بشكل مخيف وهناك عدد من المنازل التي أحرقت تمامًا إلا أن حجم الأضرار كان أقل كثيرًا مما كنت أتصور.

لا غنى عن المساعدات

إن تفريغ إطارات السيارات لم يحُل دون سرقتها وفشلت الحيلة فشلاً ذريعًا، وسرقت أربع سيارات من بين سياراتنا الست. وتعرض مقرنا للنهب وسُرق الطعام المتبقي وغالبًا أصبح بين يدي الناس الذين كان سيوزع عليهم بأية حال. وفي ظل الافتقار إلى المرافق الأساسية والسيارات، لم يعد من الممكن استئناف عملياتنا في موعدها مع افتراض استمرار الهدوء.

وفي غضون ذلك، استمرت حاجة السكان إلى المساعدة. وأبلغنا العاملون معنا بسقوط مصابين بين صفوف المقاتلين والمدنيين، وبوجود جثث لم تدفن بعد بالإضافة إلى معاناة الأشخاص الفارين من نقص في الغذاء والمأوى. وعدنا إلى لير بعد ثلاثة أيام محملين هذه المرة بإمدادات من قطع القماش المشمع وصفائح المياه ومجموعات الصيد وبعض الطعام الذي يكفي نحو 6000 شخص.

وقمنا بعملية التوزيع على طول المهبط حيث وفرنا المساعدات الأساسية العاجلة على الكل بالقدر المستطاع. وفي الوقت نفسه، استظل العديد من الجرحى المحمولين على نقالات، بجناحي الطائرة ليحتموا بهما من أشعة الشمس الحارقة، بانتظار نقلهم إلى مكان آخر يمكن فيه إخضاعهم للجراحة.

وبرغم المعاناة والحرمان أظهر الناس درجة عالية من المرونة والتصميم بل والتشبث بالأمل، وقاموا بجمع الصناديق الفارغة المصنوعة من الورق المقوى والأشرطة البلاستيكية والأكياس التي كانت تحتوي على المساعدات لتتحول تلك المواد إلى عناصر تساعدهم على بناء المآوى أو إعادة بنائها.

سألت امرأة كانت تقف بانتظار دورها للحصول على المساعدات عما تنوي فعله إثر أعمال العنف الأخيرة التي اندلعت في منطقة مرت بعقود من القتال. أجابتني ببساطة: "سنفعل مثل كل المرات السابقة. سنعود إلى القرية ونبدأ من جديد".

 

ماري تقف داخل حطام منزلها الذي أتى عليه الحريق في لير في نهاية أيار/ مايو 2015 CC BY-NC-ND/ICRC/Jason Straziuso




الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن كاتبه ولا تعكس بالضرورة السياسة التحريرية للجزيرة.