"ظننت أنها لعبة قبل أن تنفجر في يدي" هذا ما قالته "دعاء ياسين" ابنة الـ 11 عامًا وهي في منزلها في مدينة غزة، حيث التقطت من على الأرض إحدى مخلفات الحرب التي لم تنفجر من النزاعات السابقة.

كان ذلك في ظهر يوم السادس من أيار/مايو 2015. كانت "دعاء" في طريقها إلى المنزل عائدة من المدرسة عندما جذب انتباهها جسم غريب ملقىً على جانب الطريق. وبدافع الفضول، التقطته وأخذت تلهو به أمام منزل جدتها. لكن لهوها الطفولي البريء ما لبث أن اختتم بنهاية مأساوية عندما انفجر الجسم في يدها اليمنى.

سمع "تامر ياسين" الأخ الأكبر "لدعاء" البالغ من العمر 24 عامًا دوي الانفجار بينما كان داخل المنزل فهرع إلى الخارج. وجد "دعاء" مسجّاة على الأرض غارقة في دمائها. أسرع بأخته إلى مستشفى الشفاء، أكبر مجمع طبي في قطاع غزة والمستشفى المركزي به. 

كانت "فدوى ياسين" والدة "دعاء" في تلك الأثناء في السوق تشتري الخضراوات. عادت إلى المنزل لتجد رجال الشرطة مع حشد صغير يتجمهرون حوله.

تعود "فدوى" بذاكرتها للوراء لتروي ما حدث قائلة: "أخبرني بعض الناس أن "دعاء" لقيت حتفها، بينما قال آخرون أنها فقدت يدها. هرعت إلى غرفتي، أصابتني حالة انهيار وأجهشت بالبكاء".

يعمل "علاء ياسين" والد "دعاء" البالغ من العمر 40 عامًا عامل بناء، لكنه فقد وظيفته الثابتة بسبب القيود المفروضة على استيراد مواد البناء الأساسية في قطاع غزة. تلقى "علاء" مكالمة هاتفية من زوجته "فدوى" تخبره أن "دعاء" في حالة حرجة. أسرع الوالد إلى المستشفى، وهناك أخذ يتوسل إلى الأطباء أن ينقذوا يد ابنته.

يسترجع "علاء" الأحداث قائلًا: "كانت "دعاء" ترقد في وحدة الرعاية المركزة. كانت يدها ملفوفة بالكامل بالشاش وأراني الطبيب صورة ليدها. لم أحتمل رؤية ما في الصورة. أخبرني أننا إن لم نسرع بنقلها إلى المستشفى في مدينة نابلس (بالضفة الغربية) فإن تداعيات البتر ستكون وخيمة".

حصلت وزارة الصحة في غزة على وثائق النقل الطبي اللازمة لنقل "دعاء" إلى المستشفى في نابلس. وهناك خضعت "دعاء" لما لا يقل عن ثماني عمليات جراحية. وبسبب تعقيد التدخلات الجراحية التي خضعت لها، مكثت في المستشفى 52 يومًا.

تقول "دعاء": "عندما سمحت حالتي الصحية بمغادرة المستشفى بشكل نهائي كانت الامتحانات المدرسية قد انقضت. لذا نظمت المدرسة لجنة خاصة بي كي أخضع للامتحانات التي اجتزتها بنجاح لأنتقل إلى الصف الخامس.

الجراح النفسية

"دعاء" فرد في أسرة تضم 10 أبناء؛ ستة أولاد وأربع بنات. يعيش الابن الأكبر "تامر" في بيت العائلة مع زوجته واثنين من الأبناء.

وبحسب "فدوى" والدة "دعاء"، فإن التجربة برمّتها التي خاضتها "دعاء" وضعت الأسرة تحت ضغوط عاطفية أنهكتها.

تقول "فدوى" وهي تلاعب طفلتها في غرفتها: "في بعض الأحيان يتملك "دعاء"شعور بالضعف والقهر، وتسألني لماذا حدث لها ما حدث، وتختبئ في حجرتها عندما يأتي إلى البيت من يزورنا. جميع أفراد الأسرة يقفون معها ويدعمونها. ما لدينا من مدخرات ليس بالكثير ودخلنا منخفض جدًا، لكننا مع ذلك اشترينا لها جهازًا لوحيًا عندما خرجت من المستشفى. يدرك إخوة "دعاء" أنها بحاجة إلى اهتمامنا".

"آدم" ذو الثلاثة أعوام، الأخ الأصغر "لدعاء"، هو أشد من تأثر بالحادث.

تقول "فدوى": "عندما اصطحب أيًا من أبنائي إلى المستشفى يسألني "آدم": "هل سيقطعون يديه كما حدث لدعاء؟" ذهبت مع أخته إلى طبيب الأسنان الأسبوع الماضي وعندما عدنا سألني "هل قطعوا يدها؟""

العودة إلى المدرسة

تذكر "نهى أبو شعيرة" مديرة المدرسة التي ترتادها "دعاء" أنها كانت من أنجب الطالبات قبل الحادث. لكن تحصيلها الدراسي تدهور منذ وقوع الحادث، ومع ذلك يظل مستواها فوق المتوسط.

تقول "نهى": "لقد تأثر مستوى أدائها الدراسي بسبب التبعات النفسية التي خلّفتها الإصابة التي أثرت على ثقتها بنفسها، فهي تغطي يدها اليمنى بقطعة من الشاش الأبيض معظم الوقت عندما تكون داخل غرفة الصف ". 

لم تنتظم "دعاء" في المدرسة إلا بعد بضعة أشهر خضعت خلالها لإعادة تأهيل بدني لتتعلم الكتابة بيدها اليسرى.

 تقول "دعاء" وهي تجلس أمام طاولتها المدرسية: "من أصعب الأمور التي واجهتها محاولة الكتابة بيدي اليسرى". وتضيف قائلة: "عندما عدت إلى المدرسة لم أكن أود اللعب مع رفيقاتي في الفصل، لكن دعمهن لي شجعني على مشاركتهن اللعب كما كنا من قبل".

 

حياة جديدة

كان أول لقاء جمع "دعاء" باللجنة الدولية للصليب الأحمر في مدرستها حيث عقدت جلسة توعية حول مخلفات الحرب غير المنفجرة. وكان الهدف من هذه الجلسة الترويج لسلوك آمن لدى الطلاب والمدرسين. وعندما التقى موظفو اللجنة الدولية "دعاء" أخبروا أسرتها أنه بإمكانها الحصول على طرف اصطناعي من مركز الأطراف الاصطناعية وشلل الأطفال في مدينة غزة.

ما هي إلا أسابيع قليلة حتى رُكّب طرف اصطناعي "لدعاء". بعدها سألت الطبيب والابتسامة تعلو وجهها: "هل يمكنني استخدام طلاء الأظافر عليه؟"

وبعد مرور أكثر من عام على الحادث، لا تزال "دعاء" تتكيف مع التغيرات التي طرأت على حياتها. ويساعدها الدعم النفسي والاجتماعي الذي تحصل عليه من مركز الأطراف الاصطناعية وشلل الأطفال على استعادة ثقتها بنفسها.

تقول "فدوى": تساعدني "دعاء" في غسل الصحون، وأصبح من السهل عليها الآن الإمساك بالجهاز اللوحي مستخدمة طرفها الاصطناعي. وآمل أن تساعدها جلسات الدعم التي تحضرها مع غيرها من الأطفال المتضررين من مخلفات الحرب غير المنفجرة على التطلع إلى الأمام وأن تحقق مستقبلًا مشرقًا".

 

على الرغم من مرور ما يقرب من عامين على الحرب الأخيرة في قطاع غزة، فإن القطاع يعد من المناطق التي تعج أراضيه بأكبر عدد من الذخائر المتفجرة في العالم. ولا تزال العواقب التي تحدثها هذه الذخائر تخيّم بظلالها القاتمة على سكانه. و"دعاء" طفلة من بين العديد من الأطفال في المنطقة الذين اتخذت حياتهم مسارًا مغايرًا بلا رجعة بسبب مخلفات الحرب غير المنفجرة.

لا يزال أهل غزة – التي تعد معدلات المواليد فيها من بين الأعلى في العالم – يأملون أن يأتي يوم يستطيع فيه أطفالهم اللعب في الجوار دون أن يخشوا عليهم من أن يقع في أيديهم ما يظنه الأطفال لعبة ظاهرها بريء تتحول في لحظة إلى دموية .