مقال

جنوب أفريقيا: "أريدها أن تعرف أين أنا"

قطعة ورق صغيرة متهالكة، يبدو أنها انتُزعت من دفتر أوراقه ذات حافة متعرجة. مكتوب عليها أرقام هواتف محمولة تحمل رموزًا كودية لبلدان مختلفة – كل الأكواد من ملاوي، وموزمبيق، وليسوتو، وسوازيلند، وأوغندا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية. هذا كل ما لديهم للاتصال بعائلاتهم في بلادهم، كل ما لديهم ليُخبروا أحباءهم أنهم على قيد الحياة، وأنهم بخير.

أنا بخير وحي أرزق، ولكنني لست حرًا.

هؤلاء الرجال والنساء محتجزون في مركز "لينديلا للإعادة إلى الوطن"، وهو مكان يُحتجَز فيه المهاجرون غير الشرعيين بالقرب من جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

"أنا هنا منذ عشرة أيام. استوقفتني الشرطة، واشتبهت في حيازتي مخدرات، ولكنهم لم يعثروا على شيء. طلبوا مني التصريح، ولم يكن معي، لأني فقدته عندما شب حريق في منزلي. فألقي القبض علي".

تلك هي قصة رجل من ملاوي في قسم الرجال في مكان الاحتجاز هذا.

على اختلاف قصصهم، تربط بينهم الرغبة العميقة في التواصل مع عائلاتهم وإخبارها عن مكان تواجدهم.

"ستكون سعيدة جدًا"، هذا ما قالته إحدى النساء واصفةً حال والدتها عندما تعرف مكانها. تقوله الآن لأنها ستتمكن من الاتصال بأمها. فهي موجودة في "لينديلا" منذ عدة أسابيع بعد القبض عليها أثناء عبورها الحدود إلى جنوب أفريقيا.

أكملت قائلة: "كل ما أريده هو أن تعرف أمي أنه ألقي القبض عليّ. لست متأكدة متى سأخرج، فقط أريدها أن تعرف أين أنا".

الرحلة إلى جنوب أفريقيا بالنسبة للكثيرين رحلة طويلة، ربما تستغرق أيامًا، أو أسابيع، أو شهورًا في بعض الأحيان. تقول هذه الشابة إن جنوب أفريقيا هي البلد الذي اختارته بعد أن شبَّت في ما وصفته بـ "أسرة مُهمَلة"، واضطرت إلى شق طريقها وتحمل مسؤولية نفسها.

"المسألة هي إن لدي أهلًا أراعيهم في بلدي... كان كل شيء شحيحًا. وكان علىّ توفير المياه، والكهرباء، وكل شيء. أمي لا تعمل، ولم يكن لدي وقت حتى لتدبير المال اللازم لاستخراج جواز سفر".

تجد في فناء "لينديلا" عدة مكاتب، أحدها نستخدمه نحن، اللجنة الدولية للصليب الأحمر (اللجنة الدولية)، لتقديم خدمة المكالمات الهاتفية المجانية بتصريح من سلطات جنوب أفريقيا. يقف العشرات في طوابير بالخارج يسدُّون المدخل وهم ينتظرون دورهم في لهفة. توجد ثلاثة مواضع للتحدث، ويٌمنح كل شخص ثلاث دقائق يستغلها في محادثة واحدة أو اثنتين، حسب اختياره.

دخل أحد الرجال، وجلس على مقعد أمام المنضدة، قلت له: "مرحبًا، كيف حالك؟"

قال: "بخير، شكرًا لك"

سألته: "من أي بلد أنت؟"

قال: "ملاوي"

"مع من تود أن تتحدث؟"

أجاب: "مع أخي"

"أخوك في أي بلد؟"

قال :"هنا"، يشير إلى جنوب أفريقيا.

نستخدم هذه المعلومات لتسجيل الإحصائيات. سألته إذا كان الرقم معه، وتقدمتُ له بالهاتف، مال إلى الأمام، أصبح فعليًا على حافة المقعد وهو يصغي إلى صوت الاتصال بالرقم. أضاء وجهه وابتسم وهو يحيي الشخص على الجانب الآخر، على بعد أميال، ولكن في هذه اللحظة يختفي الضجيج من الغرفة ويصبح كأن كلا المتحدثيْن فيها معًا.

في عام 2018، ساعدت اللجنة الدولية مهاجرين في "لينديلا" على إجراء 1530 مكالمة هاتفية مع أقاربهم. هذه المكالمات الهاتفية جزء من عمل أوسع نطاقًا تقوم به اللجنة الدولية لزيارة المهاجرين المحتجزين في جنوب أفريقيا والتحدث إلى السلطات بشأن المعاملة التي يلقونها وظروفهم المعيشية. ونقوم بهذا العمل في "لينديلا" منذ عام 2015.

تتيح هذه المكالمات الهاتفية للمهاجرين التواصل مع أسرهم في بلادهم والحفاظ على الصلة معها. كما تمنحهم الفرصة لعمل الترتيبات المالية اللازمة للإسراع من عملية الإعادة إلى وطنهم. تخفف هذه الصلة قليلًا من وطأة الواقع الصعب، إذ تجعل المهاجرين يفكرون في خطوتهم التالية.

على مدار اليومين اللذين قضيناهما في "لينديلا"، لم يكن الجميع يغادرون الغرفة في خطوات مرحة، فأحد الرجال تلقى نبأ وفاة عمه. استرقتُ السمع ويبدو أن عمه هذا كان متورطًا في مشاجرة وقفز ليتفادى مهاجميه فلقى حتفه، كما قيل.

صاح المتحدث بلغة زمبابوي في لغته المحلية "النديبيلي" "Hawuangikholwa! Ngikudekangaka!"

"أنا لا أصدق! أنا بعيد جدا!"

نظر إلى عدَّاد الوقت، مضت دقيقة و22 ثانية من المحادثة، أدرك أن الوقت يداهمه، سأل بسرعة عن أحوال الجميع وطلب أن تُرسِل له عائلته نقودًا.

أما الذين لا يمكنهم الوصول إلى أي من أقاربهم، فيكون أمرهم محزنًا. فإما أن الرقم لا يمكنه الاتصال به، أو أنه محوَّل مباشرةً إلى البريد الصوتي، أو أن يرن الهاتف إلى ما لا نهاية ولا مجيب. يحاولون مرارًا وتكرارًا، ويجربون الاتصال بأرقام أخرى قبل النهوض للانصراف وهم يهزون أكتافهم بعد استنفاد كافة الاختيارات. يطوون قطعة الورق الصغيرة المتهالكة، ويدسونها في جيوبهم مرة أخرى، ويغادرون الغرفة ليعودوا في المرة القادمة، ويحاولون الاتصال مجددًا.