مقال

كلمة رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر أمام مجلس حقوق الإنسان

كلمة السيد/ بيتر ماورير رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر أمام الدورة الحادية والثلاثين لمجلس حقوق الإنسان.

معالي/ المفوض السامي،
أصحاب السعادة،
السيدات والسادة،
ساقتني إحدى أولى مهامي الميدانية كرئيس للّجنة الدولية للصليب الأحمر لزيارة سورية، كان ذلك في أيلول/ سبتمبر 2012.
انقلبت الانتفاضة الشعبية إلى حرب أهلية طاحنة، ورأى السوريون كيف أصبحت حياتهم الطبيعية أثرًا بعد عين. الحياة الطبيعية في وقت السلم، هي تلك التي يذهب فيها الأطفال إلى مدارسهم، ويتردد الآباء على أماكن عملهم، وتصخب الأسواق بحركة البيع والشراء.
عدت إلى سورية الأسبوع الماضي، لأرى أن لا شيء عاد طبيعيًا هناك.
فقد أتى القصف على شبكات الإمداد بالكهرباء وأنظمة تنقية المياه. ودمّر القتال طرق نقل الوقود والغذاء. ودمّرت القنابل المستشفيات والمدارس. وقد ابتُلي الشعب السوري بالحصار المفروض في أرجاء البلاد، وأسفر عن عزله عن بقية العالم، وحرمانه من الخدمات الرئيسية أو المساعدات المنقذة للحياة.
وليست سورية إلا مثال تتجلى فيه أمام أعيننا الآثار التراكمية المفجعة للنزاعات التي يطول أمدها على حياة الشعوب.
إن الأثر المترتب على النزاعات المسلحة والعنف في يومنا الحاضر شامل لكل مناحي الحياة ويطال جميع النظم في عدد كبير من الدول؛ بدءًا من انهيار الخدمات العامة الأساسية كالصحة، والكهرباء، والمياه، والصرف الصحي، وانتهاءً بالعصف بالمقومات التي تحقق نمو المجتمع؛ وهي التعليم لأبنائه، وفرص العمل لبالغيه، والأمان للفئات الأكثر استضعافًا فيه. وكلما طال أمد استمرار الحروب وغيرها من حالات العنف، زاد عمق الآثار المدمرة التي تسفر عنها اقتصاديات الحروب. عقود من التنمية والتطوير مُحيَت في غضون بضع سنوات.
حيث تقف النزاعات التي يطول أمدها، والعنف المستمر، وانعدام الأمن على نطاق واسع في طريق عمل الكثير من وكالات التنمية، وفي ظل انعدام أي أفق لانتهاء الأعمال العدائية في دول منها على سبيل المثال لا الحصر الصومال، وأفغانستان، وجنوب السودان، والعراق – يتمثل دورنا نحن المنشغلين بالعمل الإنساني في محاولة المحافظة على التوازن على المدى المتوسط وحتى البعيد، فنعمل على تحصين المواشي، وتيسير إقامة المشاريع، ودعم مرافق الرعاية الصحية والمياه لأطول مدة ممكنة.
إن ضمان استمرار عمل البني التحتية والخدمات الأساسية على النحو المناسب أثناء النزاعات المسلحة وحالات العنف يحقق ثمارًا لا تقتصر على الإسهام في منع المعاناة فحسب، بل تمتد إلى حد وضع الأسس لمرحلة التعافي بعد انتهاء النزاع. فهذا يُعد جزءًا رئيسيًا من احترام حقوق الشعوب.
السيدات والسادة،
عندما لا يُحترم القانون الدولي الإنساني، تصبح الحياة، وأعني هنا الحياة الكريمة، مستحيلة.
عندما يغيب احترام حقوق الإنسان الأساسية، تفقد الشعوب الأمل.
إن أفضل وسيلة لمواجهة الأثر بعيد المدى للنزاعات ذات الأمد الطويل، التي من الممكن أن يمتد أثرها ليطال أجيال دول بأسرها، هي التصدي لانتهاكات القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
إن دوركم كدول أن تحافظوا على استمرار الخدمات العامة، وحمايتها، ودعمها حتى في أوقات الحروب والعنف، بل في هذه الأوقات أكثر من أي وقت آخر.
ولا شك أنه عندما تُدمّر البنى التحتية الأساسية، ويستحيل الحصول على الرعاية الصحية، وتُحرم الشعوب من الضروريات الأساسية لتنعم بحياة إنسانية كريمة، وبطبيعة الحال، عندما لا تُحترم الحقوق الأساسية - تنزلق الشعوب إلى دوّامة حلقة مفرغة تكرّس العنف، والفقر، والتخلف بسرعة أكبر. فالحقوق ليست معايير مُجرّدة، بل هي أساس الحياة. وإن الانتهاك المنهجي والجسيم للحقوق يجعل من المستحيل للشعوب أن تنعم بحياة كريمة.
ولهذا السبب فإنني أناشدكم بذل كلّ ما في وسعكم في إطار ما تتيحه صلاحياتكم لضمان صون كرامة الرجال والنساء والأطفال واحترام حقوقهم، وذلك عن طريق التأكّد من حصولهم على الخدمات الأساسية كالرعاية الصحية، والمياه، والمأوى، والتعليم دون أي معوّقات.
السيادات والسادة،
إنني أحثكم على أن تتخذوا من هذه الذكرى السنوية العاشرة لمجلس حقوق الإنسان فرصة للاحتفاء بما تحقق من إنجازات، ولننظر كذلك أين نقف اليوم في مسيرة سعينا إلى تهيئة الظروف الملائمة لتحقيق حياة إنسانية كريمة.
نعلم جميعًا أن ثمّة تناقضات حتمية ينطوي عليها تأسيس هذا الكيان؛ فهو يجمع بين كونه مُنتدى سياسيًا لحقوق الإنسان، وحيزًا للتفاعل المرتكز إلى الأدلة بين الأقران والخبراء. وإن الدفع بالثقل السياسي خلف نهج لحقوق الإنسان يرتكز إلى الأدلة سمح بإحراز تقدم في عديد من المجالات على مدار العقد الماضي، وإن كان تقدمًا تشوبه بعض العيوب في بعض الأحيان.
إن التنقيح المستمر الذي تخضع له آلية المراجعة الدورية الشاملة لهو خير برهان على قوة الإقناع الواعدة التي يتمتع بها هذا المجلس، وكذلك على استعداد الدول للمشاركة، وهو ما يدعوني إلى الإشادة بكم جميعًا.
أنا هنا لأؤكد أن اللجنة الدولية ستظل مستعدة لدعم مجلس حقوق الإنسان في سعيه نحو هدفه المتمثل في حماية الحياة الكريمة للشعوب، من خلال تعزيز احترام القانون، لا سيما في أوقات النزاع المسلح وحالات العنف الأخرى، وما ينتج عنها من أوضاع هشّة. أؤمن أن بوسعنا تقديم إسهام مهم في وضع الآليات اللازمة لتحقيق هذا الهدف.
تتمتع اللجنة الدولية بحضور في المجتمعات التي يسودها العنف والأكثر هشاشة في جميع أنحاء العالم، وندرك أن انتهاك القانون الدولي الإنساني يستتبع لزامًا انتهاك القانون الدولي لحقوق الإنسان.
السيدات والسادة،
في حين يبدو أن الرثاء لتراجع تأثير القانون الدولي الإنساني وقدرته على توفير الحماية أصبح السمة الغالبة في مجالس اليوم، فإنني سأخالف ذلك لأقول إنه لم يسبق أن تمتع الإطار القانوني المعياري بهذه القوة والشمولية، ولم يسبق أن توافرت كل هذه الفرص لبناء آليات لمراجعة تطبيق القانون واحترامه وتعزيزها.
إن مردّ هذه المفارقة هو طريقة تصوّرنا للأمور.
إن سبب ذلك على وجه الدقة هو أنه لم يسبق أن تمتع القانون بهذه القوة، وأننا أصبحنا أكثر حساسية تجاه الانتهاكات والتجاوزات، ونحن بالطبع محقون في ذلك. ولأننا نعلم قدرة القانون على توفير الحماية، فإننا نشعر بغضب شديد حيال الانتهاكات التي تقع؛ عندما تُجبر المجتمعات المدنية على النزوح أو تعاني من حصارات طويلة، وعندما تُستهدف المدارس بالهجمات بالمخالفة للقانون، وعندما يُحرم المُحتجزون من الضمانات الإجرائية، أو يُحتجزون في ظروف غير إنسانية، أو يتعرضون للتعذيب أو الإعدام خارج نطاق القانون.
في العام الماضي، زارت اللجنة الدولية قرابة مليون محتجز حول العالم. تتيح لنا خبرتنا وحضورنا العالمي معرفة التطوّرات التي تؤول إليه الممارسات المختلفة.
ندرك كيف يؤدي سوء المعاملة والاعتداء المنهجيين على المحتجزين إلى جنوحهم نحو التطرّف.
وندرك كيف يؤدي الإخفاق في تحقيق العدالة؛ بسبب عدم توفر القضاة، أو الموارد، أو البنية التحتية الملائمة، إلى ظروف احتجاز غير إنسانية.
إن الاستثمار في منظومة عدالة فعّالة ومستقلة لهو من أنجع الخيارات التي يمكن لدولة أن تتبناها لجني فوائد مجتمعية بعيدة المدى. ووجود مثل هذه المنظومة يعني أن يحظى القانون الدولي بالاحترام، وأن تكون القوات المسلحة مُدرّبة على التزاماتها القانونية، وأن المؤسسات الوطنية تعزز القانون، وأن الناس يعون أن لهذا القانون جذورًا عميقة في ثقافاتهم ومجتمعاتهم.
السيدات والسادة،
إن ثمّة قيمة مضافة عظيمة بإمكان مجلس حقوق الإنسان تقديمها للعالم، وهي أنه يستطيع تهيئة الظروف الباعثة على صون كرامة الحياة الإنسانية وحماية تلك الظروف. وهو إنجاز ليس بالهيّن، بل على العكس تمامًا.
إنني أثق بأنكم ستواصلون العمل للنهوض بأعباء هذا التكليف وهذه المهمة، وأنكم ستبذلون كل ما بوسعكم لمساعدة الناس في كل مكان.
شكرًا لكم.