مقال

غزة: بمرور كلّ جولة عنف، تزداد القلوب ثقلاً

لقد مرّ أقل من عشرة أشهر على آخر تصعيد شديد في غزة، وها هم أفراد العائلات المتضررة يحاولون إعادة بناء حياتهم مرة أخرى. لقد مرّت هذه العائلات بثلاث جولات رئيسية من الأعمال العدائية المسلحة في غضون عامين.

تسببت الأيام الخمسة من النزاع في أيار/مايو 2023 في دمارٍ وجروحٍ وخسارة أرواحٍ بين السكان في غزة... السكان الذين لم يزل الكثير منهم يحاول البدء في التعافي نفسياً وجسدياً ومالياً من التجارب التي عاشها في أيار/مايو 2021 وآب/أغسطس 2022.

ليست هذه المرة الأولى التي يتضرر فيها منزلنا. لقد نجونا من العديد من جولات التصعيد. ومع كل جولة تقريباً، يتضرر منزلنا. ببساطة، لا يمكننا الاستمرار في محاولة النجاة على هذا النحو إلى الأبد

عصمت معروف، 58 عاماً، قطاع غزة 
© اللجنة الدولية، هشام مهنا

"أردنا ضمان التحاق جميع أطفالنا بالجامعة لمساعدتهم في بناء مستقبلهم" - عصمت

ستة عشر عاماً من القيود المفروضة على حركة الأفراد والبضائع تُفاقم الوضع في غزة، إذ يصاحب كل جولة تصعيد إغلاقٌ للمعابر فيها، مما يقلل الإمدادات، لا بل يقلل أيضاً الأمل في مستقبلٍ أفضل.

الاستعداد للأسوأ

الاستجابة والمرونة هي ليست مجرد ألفاظ رنّانة، فبالنسبة للكثيرين في غزة هي شريان الحياة الذي يفصل ما بين مأساة الموت وأمل البقاء على قيد الحياة.

يستغلّ المستجيبون الأوائل أوقات السِّلم للاستعداد للجولة التالية من الأعمال العدائية. إنهم يعلمون جيداً حجم الدمار الذي يجلبه كل تصعيد ويشاركون في دورات تدريبية تهدف إلى الاستجابة بكفاءة للاحتياجات الأكثر إلحاحاً.

وإنطلاقاً من إدراكها للطبيعة العاجلة لمثل هذه الاستعدادات، تدعم اللجنة الدولية للصليب الأحمر (اللجنة الدولية) هذه التدريبات المتخصصة بالتأهب لحالات الطوارئ والاستجابة لها. وقد تحدّث السيد رأفت جعرور، رئيس قسم التدريب وبناء القدرات في وزارة الصحة في غزة، عن الآثار الحقيقية لهذا الاستعداد.

لعبت الدورات التدريبية دوراً رئيسياً في تسريع استجابتنا في تقديم خدمات إنقاذ الحياة أثناء التصعيد الأخير. طبّق المسعفون ما تعلموه من متخصصي اللجنة الدولية للصليب الأحمر، مما ساعدهم في إنقاذ العديد من الأرواح.

© اللجنة الدولية، سليمان حجي.

يواجه المستجيبون الأوائل والمرافق الطبية ضغوطاً متزايدةً مع كل تصعيد شديد.

فيما تهتزّ الأرض بالانفجارات

كان محمد يعيش في منزلٍ مع زوجته وأطفالهما الصغار الأربعة. أطفاله، ثلاثة منهم يتعلّمون في المدرسة، هم طلاب جيدون ويحصّلون درجات عالية.

عندما أدرك محمد وزوجته أن المبنى يهتز وأن الجدران تنهار، قام بركل الباب لعائلته للفرار.

عندما نظرتُ إلى الخارج، كان الشيء الوحيد الذي رأيته هو النيران. عدتُ إلى زوجتي وقلت لها: "سنموت لا محال. لا توجد طريقة للخروج من هنا. من المستحيل أن يتمكّن أي شخص من الوصول إلينا." ظللتُ أنظر إلى أطفالي على أمل أن أشبع من رؤيتهم للمرة الأخيرة

© اللجنة الدولية، هشام مهنا.

منزل محمد بعد جولة التصعيد.

بعد وقف إطلاق النار

في الأيام التي أعقبت إعلان وقف إطلاق النار، بدأت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني واللجنة الدولية في الاستجابة للاحتياجات الطارئة. وبينما حبست العائلات أنفاسها لمعرفة ما إذا كان الاتفاق سيصمد، قامت طواقم جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني واللجنة الدولية بتقييم المنازل المحطّمة، وقدّمت المساعدات النقدية والمستلزمات المنزلية للفئات الأكثر ضعفاً، الأمر الذي من شأنه أن يُعينهم على تلبية الاحتياجات الطارئة ومحاولة البدء في إعادة بناء حياتهم من جديد.

وبالإضافة إلى الجهود المستمرة في سبيل تحسين توفير الخدمات الأساسية للمياه والصرف الصحي والكهرباء والصحة وزيادة صمود هذه الخدمات أمام الصدمات، دعمت اللجنة الدولية جهود مقدّمي الخدمات المحليين من خلال توفير الوقود والخبرة الفنية اللازمة لضمان تطهير المناطق من الذخائر غير المنفجرة. كما نظّمت اللجنة الدولية وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني جلسات توعية للأطفال والكبار حول مخاطر الذخائر غير المنفجرة في المناطق المتضررة.

هو روتين وطريق بالية، ساروا فيها العديد من المرات من قبل.

© اللجنة الدولية، هشام مهنا

طواقم اللجنة الدولية والهلال الأحمر الفلسطيني في جولةٍ في أحد المنازل المدمرة لتقييم الآثار والمخاطر التي يتعرض لها الأفراد الذين يعيشون هناك. </h2>

محمد هو أحد الأشخاص الذين تلقّوا الدعم، وهو يعيش الآن مع والديه، بينما تُقيم زوجته وأطفاله مع والديها. من خلال المساعدة النقدية التي حصل عليها، شرع محمد في رحلة ادّخار المال بهدف تأمين مستقبل الأسرة وشراء منزل ليلمّ شملهم من جديد.

© اللجنة الدولية، هشام مهنا

"خطّتي هي ادّخار أي مساعدة أحصل عليها لتأمين مستقبل أطفالي. نحن نعيش في مكان يمكن أن يتعرّض فيه أي شخص للموت في أي لحظة. على الأقل، إذا متّ، سيكون لديهم بيت يأويهم" - محمد. </h2>

علي يحيى هو متطوع في  جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني ومشارك في الاستجابة. لقد رأى علي العديد من العائلات مثل عائلة محمد، وهو يدرك جيداً أن دعم الصحة النفسية للمتضررين لا يقلّ أهميةً عن تقديم الدعم البدني لهم.

نحاول التركيز على تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للعائلات المتضررة، ومساعدة الأطفال في التغلب على التجارب غير الطبيعية التي مرّوا بها. أعتقد أنّ كل شخص في غزة بحاجة ماسة إلى هذا النوع من الدعم، حتى أنا نفسي بحاجة إليه

© اللجنة الدولية، هشام مهنا.

يعمل متطوعون مثل علي في العديد من مجالات الاستجابة. يقوم علي هنا بإجراء جلسات توعية بشأن الذخائر غير المنفجرة مع الأطفال الذين تضررت منازلهم. </h2>

مستقبل مجهول

الإعداد للمستقبل هو بمثابة المشي على حبل مشدود يربط ما بين مشاعر الخوف والإرهاق. يبقى التطلّع إلى المستقبل مجرّد محاولة غير مؤكّدة عندما يضطر الشخص إلى التركيز على إعادة بناء حياته، هنا والآن، مرة أخرى.

© اللجنة الدولية، هشام مهنا.

"كنتُ أحلم بأن أصبح طبيبة" – ريما

"كان من المفترض أن أجري امتحانات نصف السنة الأسبوع المقبل. لا أستطيع الذهاب إلى المدرسة. سأرسب هذا العام. لقد فقدتُ كل كتبي ودفاتر ملاحظاتي، والآن ليس لدي مكان للدراسة أو النوم" - ريما نبهان، 13 عاماً، قطاع غزة.

على الرغم من العيش في المجهول، يواصل أفراد المجتمع المضي قدماً. لا يوجد أمامهم خيار آخر.

إن قدرة سكان غزة على البدء من جديد هي شهادة مؤسفة على الواقع القاسي الذي يعيشونه في مواجهة جولات التصعيد المتكررة. الناس هنا مُجبرون على التكيف باستمرار مع ظروفها وتحمُّل جولات متكررة من العنف في غياب أي حل دائم لهذا النزاع الذي طال أمده. وبعيداً عن العواقب الإنسانية الواضحة لهذه الأعمال العدائية، تبقى الندوب غير المرئية عميقة، وستستمر في التأثير على حياة  الشباب والسكان الذين يعانون في غزة على مدى السنوات العديدة القادمة

ويليام شومبورغ، مدير البعثة الفرعية للجنة الدولية  في غزة.