بيان

صمود اتفاقيات جنيف يكشف لنا الممكن والمستطاع

ملاحظات أمام الفعالية الجانبية رفيعة المستوى: "70 عامًا على اتفاقيات جنيف: الاستثمار في الإنسانية من خلال التعددية"

ألقاه رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر السيد "بيتر ماورير"

سيدي الرئيس، السادة وزراء الخارجية،

شكرًا لمشاركتم بحماس في فعالية اليوم التي أقيمت بمناسبة الذكرى السبعين لاتفاقيات جنيف، وأشكر على وجه الخصوص مشاركة البلاد المضيفة الصين وجنوب أفريقيا وسويسرا.

تكفل اتفاقيات جنيف، المتفق عليها عالميًا من الدول كافة، مراعاة الإنسانية في وقت الحرب، إذ ترتكز قواعدها العملية على واقع ما يحدث في ساحات القتال، وصُممت لحماية واحترام الأرواح والكرامة الإنسانية. وهي لا تضفي شرعية على الحروب أو تطيل أمدها، بل إنها تمهد السبيل للسلام من خلال الحد من المعاناة.

شهد العالم، في أثناء الحرب العالمية الثانية، التكلفة الإنسانية الفادحة لنزاع اندلع وخرج تمامًا عن السيطرة. لذا، سعى واضعو اتفاقيات جنيف لعام 1949 إلى ضمان أن التاريخ لن يكرر ذلك، ورحلوا عن عالمنا تاركين إرثا ثمينًا من الحماية أثناء النزاعات.

الآن، بعد سبعين عامًا علينا أن نسأل أنفسنا: أين يمكن للمجتمع الدولي ضمان حماية أكبر للمدنيين في نزاعات اليوم؟

أكملت اللجنة الدولية لتوها تحليلًا جديدًا للتحديات القانونية المعاصرة في النزاعات، من المقرر إصداره قبل المؤتمر الدولي الثالث والثلاثين للصليب الأحمر والهلال الأحمر، تتناول فيه بالدراسة مجالات رئيسية.

سألقي اليوم الضوء على مسألتين حيويتين يمكن للمجتمع الدولي فيهما تحقيق توازن أفضل بين العمل العسكري والإنسانية.

أولهما، حروب المدن التي تتسبب في نمط مخيف من الأذى المدني. ومع تقدير عدد المتضررين بنحو 50 مليون شخص، يتضح أن العديد من الأطراف المتحاربة لم تكيِّف بعد اختياراتها من الأسلحة وأساليب القتال لتلائم مواطن الضعف الفريدة للمناطق المأهولة بالسكان.

لا يحتاج الأمر سوى إلقاء نظرة على المدن التي دُكَّت وسُوّيت بالأرض كحلب وتعز والموصل لنرى الخراب الذي يمكن أن تحدثه حروب المدن.

وعلى نحو خاص، فإن اللجوء إلى الأسلحة المتفجرة التي تحدث آثارًا واسعة النطاق في المناطق المأهولة بالسكان يزيد من خطورة تَعرُّض الرجال والنساء والأطفال والبنية التحتية للضرر العشوائي.

يجب على الأطراف في أي نزاع بذل المزيد من الجهد لضمان اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لحماية المدنيين والأعيان المدنية من آثار الهجمات –  سواء كانت أضرارًا مباشرة أو غير مباشرة.

نحن ندرك أنه عندما يُراعى القانون الدولي الإنساني تُصان الأرواح، وتظل المستشفيات والمدارس مفتوحة، وتستمر إمدادات الكهرباء والمياه، وتواصل الأسواق عملها، وينزح عدد أقل من الناس، ويتوقف تراجع التنمية، ويُعَزز الاستقرار بوجه عام.

إننا نشهد اعترافًا عالميًا متزايدًا بهذه المسألة: في الأسبوع الماضي أصدرنا أنا والأمين العام للأمم المتحدة نداءً مشتركًا للدول وللأطراف في النزاعات لتجنب اللجوء إلى الأسلحة المتفجرة التي تحدث آثارًا واسعة النطاق في المناطق المأهولة بالسكان.

وفضلًا عن ذلك، فقد شجعني بناء الزخم بين الدول على طرح بيانات سياسية لوضع حدود ومعايير مشتركة وسياسات عملياتية بشأن هذه المسألة المهمة.

أنتقل الآن إلى المخاطر التي تنشأ من ناحية التكنولوجيا، دعوني فقط أذكر لكم ما يلي: الأسلحة السيبرانية، ومنظومات الأسلحة ذاتية التشغيل، والذكاء الاصطناعي تلعب دورًا بالفعل في نزاعات اليوم، ونتوقع زيادة دورها أضعافًا مضاعفة على مدار السنوات القادمة.

نواجه جميعًا لحظة فارقة لضمان أن الحماية الإنسانية في موضعها الصحيح. وبكل وضوح، ينطبق القانون الدولي الإنساني على استحداث واستخدام أنواع جديدة من الأسلحة والتطورات التكنولوجية في الحروب، وإن كانت خصائصها الجديدة تثير تساؤلات حول كيفية الامتثال للقواعد.

هل نبتغي تفويض برامج الكمبيوتر والخوارزميات والآلات بالقرارات المتعلقة بالحياة والموت في الحرب، بما تنطوي عليه من مسؤولية بشرية جسيمة وفريدة؟

توضح استطلاعات الرأي التي تُجرى بانتظام أن الوجدان العام واضح نسبيًا في هذا الشأن، إذ تُظهر معارضة كبيرة لاستخدام منظومات الأسلحة ذاتية التشغيل، وشعورًا قويًا بأن البشر هم من يجب أن يتخذوا قرارات الحياة والموت.

تعمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر مع الدول لتطبيق المفاهيم الأساسية للقانون الدولي الإنساني في هذه المجالات المستجدة، ونطالب بالبدء في حوار مفتوح معنا حول هذه القضايا المهمة. فالعالم لا يمكنه تحمل كُلفة ضياع الفرصة لحماية البشرية على هذه الأصعدة الجديدة.

الزملاء الأعزاء،

لابد أن نكون متيقظين لتجنب تآكل أهمية القانون الدولي الإنساني، وأن نتخذ خطوات لتصحيح السلوكيات الضارة. لا يمكن إنكار وجود أنماط من الانتهاكات المستمرة، والعواقب وخيمة ليس على الأفراد والعائلات فحسب، وإنما على المجتمعات وعلى استقرار مناطق بأكملها أيضًا.

أما عندما يُراعى القانون الدولي الإنساني، فإنه يقلص خطر الأضرار المادية والاجتماعية الواقعة على المجتمعات على المدى الطويل.

يحظى القانون الدولي الإنساني بالدعم في محافل دولية عدة، وهو الركن الأساسي للتدريبات التي تجريها الكثير من القوات المسلحة. وثمة دعم عام قوي لمراعاة الإنسانية في الحروب. والأمثلة الإيجابية لتطبيقه على نحو يومي زاخرة:

ظل عشرات الآلاف من المحتجزين على صلة بعائلاتهم؛ وتم إطلاق سراح أسرى حرب وإعادتهم إلى أوطانهم؛ وأعيدت رفات بشرية إلى الأقارب.

تتزايد أعداد القوات المسلحة التي توظف وقتًا ومالًا للحد من الوفيات والإصابات بين المدنيين.

انخفض عدد القتلى من جراء الألغام الأرضية المضادة للأفراد انخفاضًا جذريًا، وتتواصل الجهود لتطهير الأراضي من الألغام بفضل وفاء الدول الأعضاء في اتفاقية حظر الألغام بالتزاماتها.

تعهدت الجماعات المسلحة غير التابعة للدول بعدم تجنيد الأطفال في الأعمال العدائية وعدم اللجوء إلى العنف الجنسي.

ويوميًا، تعالج الخدمات الطبية للحكومات والقوات المسلحة جرحى من صفوف الأعداء بناءً على الاحتياجات الطبية فحسب، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الدينية أو أي انتماءات أخرى.

يوضح لنا صمود اتفاقيات جنيف ما يمكن تحقيقه عندما تتخذ الدول إجراءات جماعية وفردية للتمسك بالقانون والمبادئ الإنسانية.

وكما كانت الحال في عام 1949، يظل إعطاء أولوية للحماية الإنسانية مسألة إرادة سياسية. وفي هذه الذكرى، ندعو الدول إلى تعزيز إرث الحماية، عبر مواصلة مراقبة مسؤولياتها القانونية ومواصلة اتخاذ خطوات عملية من أجل التفسير الطموح والتطبيق الشامل للقانون الدولي الإنساني.