مقال

هوغو سليم: شراكات اللجنة الدولية، حاليًا ومستقبلًا، في حالات النزاع والكوارث

ألقى رئيس شعبة السياسات والدبلوماسية الإنسانية في اللجنة الدولية للصليب الأحمر (اللجنة الدولية) الدكتور «هوغو سليم» كلمة في مؤتمر جمعية الصليب الأحمر السنغافوري الإنساني الخامس الذي كان موضوعه الشراكات والتطوع من أجل الإنسانية والمنعقد في 20 تموز/يوليو 2019.

إنه عام مميز للغاية لجمعية الصليب الأحمر السنغافوري نظرًا لحلول الذكرى السنوية السبعين على إنشاء الجمعية، ولديها الكثير مما يبعث على الفخر إذ حققت الكثير من الإنجازات في مجال العمل الإنساني على مدار السبعين عامًا الماضية.

اليوم وبعد مرور 70 عامًا، تظل جمعية الصليب الأحمر السنغافوري منظمة مؤثرة تعمل بدرجة عالية من التركيز والفاعلية داخل سنغافورة، وجمعية وطنية تعمل بنشاط كبير على الصعيد الدولي في جميع أنحاء العالم.

وللمفاجأة، فالجمعية لها توأم! فهي تشارك ذكرى تأسيسها السبعين مع اتفاقيات جنيف. فكلتاهما وُلد عام 1949، وكلتاهما يدافع عن القيمة الإنسانية ذاتها، ومنها مبدأ الإنسانية الذي يحتم علينا جميعًا "الحيلولة دون وقوع المعاناة الإنسانية وتخفيفها أينما وجدت، وحماية الحياة والصحة وضمان احترام الإنسان". ونحن مطالبون بذلك في السراء والضراء على حدٍ سواء.

وعند بلوغ الـ 70 يكتسب المرء قدرًا كبيرًا من الحكمة.

ومن بين الأمور التي تدركها كل منظمة إنسانية تتحلى بالحكمة أن أفضل الطرق لتنفيذ العمل الإنساني هي أن ننفذه معًا. فالعمل الإنساني ليس عملًا فرديًا بأي حال من الأحوال، وإنما يعتمد دومًا على شتى أنواع الدعم المتبادل.

يُنفذ العمل الإنساني على أفضل نحو عبر الشراكات - أي بالعمل مع الآخرين - ولهذا فإن موضوع مؤتمر هذا العام يتسم بالكثير من الوجاهة.

اللجنة الدولية منظمة قديمة للغاية، ونذكِّر أنفسنا هذا العام أيضًا، مثل جمعية الصليب الأحمر السنغافوري، بأهمية الشراكة. إذ تنص استراتيجيتنا المؤسسية الجديدة على خمسة أهداف استراتيجية رئيسية من بينها الشراكة التي يُقصد بها "العمل مع الآخرين لتعزيز الأثر". ويرجع ذلك إلى ثلاثة أسباب رئيسية:

1-    تتسم النزاعات الحالية والمستقبلية بطول الأمد، ما يعني أنه يلزمنا الحصول على مساعدة الآخرين ودعمهم بما يتيح لنا إحداث أثر أكبر وأكثر استدامة في حياة الناس الذين يكافحون من أجل البقاء في حالات النزاع والعنف، غالبًا على مدى عقود وعبر أجيال متعاقبة.

2-    احتدام أزمة المناخ من شأنه أن يؤدي إلى زيادة كبيرة في الاحتياجات البشرية في السنوات المقبلة ما قد يزيد من تعقيد العمل الإنساني واعتماده على الشراكات.

3-    نعلم كذلك أن زيادة العمل في إطار الشراكات مع المنظمات المحلية والوطنية الأقرب إلى الأشخاص المتضررين أو المنظَمة بمعرفتهم هو التصرف السليم من الناحية الأخلاقية والأكثر فاعلية على الصعيد الميداني.

CC BY-NC-ND / ICRC / Singapore Red Cross

لهذا، أود اليوم أن أطرح عليكم بعض أفكار اللجنة الدولية حول الشراكة، وسأركز على أربعة أسئلة:

1-    ما المقصود بالشراكة؟

2-    كيف يمكننا العمل بنجاح ضمن الشراكات؟

3-    ما سمات العمل في إطار شراكة على الصعيد العملي بالنسبة إلى اللجنة الدولية؟

4-    كيف يمكن للجنة الدولية تحسين أدائها للارتقاء بعلاقة الشراكة؟

وأنا أستند في عرضي اليوم إلى مراجعة أجريت لمنشورَين عن الشراكة بهدف مساعدة جميع العاملين في اللجنة الدولية على فهم الموضوع فهمًا أفضل. لكن قبل أن أنتقل إلى هذه الأسئلة الأربعة، أرغب في تأكيد أن الشراكة تتمحور حول العلاقات، فهي تدور حول قيام أشخاص بتنفيذ مهام يدًا بيد مع أشخاص آخرين.

كما أود التأكيد على أن فن إقامة الشراكات لا يتعلق فحسب بعقد شراكات جماعية تعمل بمقتضاها المنظمات مع بعضها من خلال تعاون مجموعات متنوعة من الأشخاص في إطار شراكات بين المنظمات.

فالشراكات أيضًا علاقات بين الأشخاص ويسودها الود. فهي، على المستوى الأساسي من العمل الإنساني، إطار يعمل فيه فردان معًا لتحقيق غرض إنساني. وفي أحسن الأحوال، يمكننا أن نقول بأن ملايين التفاعلات الإنسانية ليست سوى شراكات شخصية مضمونها الاهتمام بالآخرين.

العلاقة بين فرد خدمات طبية ومريض هي شراكة بين شخصين يعملان معًا في قضية مشتركة: فأحدهما يركز على التعافي والآخر يركز على علاجه وتشجيعه في شراكة قوامها المداواة.

وينطبق القول نفسه على أحد أعضاء فريق برنامج إعادة الروابط العائلية يعمل مع أبٍ يبحث عن ابنته المفقودة، إذ يلزمهما العمل معًا لتحقيق النجاح في هذه المهمة الإنسانية.

حتى المتبرع بالدم يقيم علاقة شراكة خفية مع شخص آخر لن يقابله في الغالب أبدًا. إن تدفق الدم من ذراع إلى آخر، عبر وسطاء مجهولون على طول العلاقة، يجسد سلسلة مدهشة من الروابط بين أشخاص ضمن علاقة شراكة إنسانية غرضها إنقاذ الأرواح.

يصنع المتطوعون فارقًا كبيرًا في الشراكات من جميع الأنواع، وذلك لأنهم عامل أساسي في الشراكات الجماعية والشراكات الوثيقة.

المتطوعون هم الركائز الأساسية لشراكات ما بين المنظمات بين مؤسساتنا، كما يمثلون الوجه الإنساني لشراكات الرعاية بين الأشخاص، يعملون معًا ووجهًا لوجه أحدهما عامل في المجال الإنساني والآخر ضحية.

1- ما المقصود بالشراكة؟

ثمة عدة أنواع مختلفة من الشراكات، ونميل إلى إبرام أنواع مختلفة لأسباب شتى.

وعادةً ما تُوصف المستويات المختلفة من الشراكة عبر طيف متعدد الألوان. في أحد طرفيه توجد الشراكات الدنيا القائمة على المعاملات، وفيها لا يمثل بناء العلاقات ومشاركة الأهداف أهمية كبيرة لطرفي الشراكة. وعلى الطرف الآخر، توجد الشراكات التحويلية التي يقدِّر فيها طرفا الشراكة إنشاء علاقة جديدة مشتركة من أجل تحقيق الأهداف التي يتشاطرونها.

 CC BY-NC-ND / ICRC

وسأضرب مثالًا (مبالغًا فيه) على الشراكات القائمة على المعاملات، وهو العلاقة التجارية بين شركة نقل بالشاحنات والمنظمة الإنسانية التي تتعاقد معها لنقل الأغذية في حالات الحروب أو الكوارث. لدى الشركة هدف تجاري أساسي ولا تبالي مطلقًا إذا كانت تنقل مواد غذائية للإغاثة إلى مخيم للنازحين أو شحنة من المشروبات الكحولية إلى أحد الملاهي، طالما أن شاحناتها مُحمّلة والشركة تحقق أرباحًا.

في الشراكة القائمة على المعاملات، يمسك طرف واحد عادةً بزمام الأمور والطرف الآخر يؤدي مهمة تحقق إلى حدِ كبير أغراض الطرف الأول. يمكن لهذه الشراكات الدنيا أن تنجح نجاحًا كبيرًا في تحقيق أهداف معينة، لكنها لا تُبنى على غرض وقيم مشتركة.

أما الشراكة التحويلية فهي مختلفة. فقد تقام بين مجموعتين أو فردين يجتمعان عن قصد لدمج ما يقومان به بأسلوب يغير كلًّا منهما للأفضل، ويُحوِّل ما يستطيعان تحقيقه، بوصفهما فريقًا، تحويلًا كبيرًا، وذلك تأثير من نوع جديد لم يكن لأحدهما تحقيقه بمفرده.

ومن الأهمية بمكان إدراك أن الشراكة التحويلية لها بُعد أساسي، ألا وهو أنها "علاقة في اتجاهين" بحق، إذ يتعلم ويستفيد ويتحوَّل كل طرف بمساعدة الطرف الآخر.

على سبيل المثال، تتعاون شركتان معًا، إحداهما شركة طبية وجدت طريقة جديدة لمراقبة ضغط الدم، والأخرى شركة رقمية متخصصة في تطوير تطبيقات وواجهات رقمية لبيانات الأعمال التي تحظى بإقبال شديد للغاية في أرجاء المعمورة. تجد الشركتان معًا طريقة لإتاحة الاختبار الجديد لقياس ضغط الدم لملايين الأشخاص الذين يعانون من ارتفاع ضغط الدم في شتى أنحاء العالم من خلال تطبيق يُستخدم عبر الهاتف المحمول.

ومن ثَم تؤدي هذه الشراكة إلى تحويل كلتا الشركتين، فحوَّلت الشركة الرقمية من شركة بيانات تجارية إلى شركة رعاية صحية كبيرة بمقدورها تحقيق قيمها الاجتماعية. وحوَّلت نطاق عمل شركة الخدمات الصحية عبر منحها إمكانية الوصول عن بُعد إلى الملايين من رجال الأعمال في منتصف العمر الذين يتعرضون لضغوط نفسية والمعرَّضين للإصابة بارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب وداء السُكري.

تتميز هذه الشراكات التحويلية عادةً بوجود أهداف وقيم مشتركة بين الطرفين، والأهم أنها تستند إلى التعاون بين كلا الشريكين وليس تحكم شريك في آخر.

غالبًا ما يُوضَّح الفرق بين الشراكات الدنيا القائمة على المعاملات والشراكات العظمى التحويلية بطريقة حسابية.

في الشراكة القائمة على المعاملات، 1+1= 2، كما هو الحال دائمًا.

لكن في الشراكة التحويلية، تُحقَّق نتائج أكبر من ذلك بكثير فيكون 1+1= 5.

تحقق الشراكة التحويلية منتجًا جديدًا تمامًا لكلا الطرفين، ما يجعل العمل بينهما يتجاوز توقعاتهما وتوقعات من حولهما. أما الشراكات القائمة على المعاملات فهي سهلة نسبيًا ولا يتطلب الحفاظ عليها الكثير من الجهد إذا ما فهم الطرفان شروط التحكم غير المتكافئة والأغراض المختلفة لكل منهما وقَبِلوها. لكن قد يترتب على هذا النوع من الشراكات حدوث تعارض في مصالح أطرافها وشعور بعضهم بالإهانة أو التعرض للاستغلال، إذا ما تطلع أحد الأطراف إلى إقامة شراكة تحويلية.

نعلم أن هذا يحدث في قطاع العمل الإنساني عندما تشعر المنظمات الوطنية والمحلية أنها مستغلَّة ولا تحظى بالتقدير من جانب شركاء دوليين متسلطين، أو العكس عندما تشعر الوكالات الدولية أنها مستغلَّة ويُساء معاملتها من جانب الشركاء المحليين والوطنيين غير المتعاونيين أو غير الخاضعين للمحاسبة.

وتتطلب الشراكات التحويلية كذلك اضطلاع جميع الأطراف بالكثير من العمل على الصعيدين النفسي والإداري، لكن بوسعها تقديم مكاسب مطردة ومستدامة ما يجعل العائد من هذا الاستثمار الإضافي في الجهد مرتفعًا.

CC BY-NC-ND / ICRC / Singapore Red Cross

وسأركز اليوم على هذا النوع من الشراكة التحويلية العميقة التي ينطوي نجاحها عمومًا على صعوبة أكبر.

2- كيف يمكننا العمل بنجاح ضمن الشراكات؟

أظهر الكثير من الدراسات التي أُجريت حول الشراكات التحويلية في الواقع العملي بشتى مجالات الحياة عدة عوامل حاسمة في نجاح هذه الشراكات، وأغلبها يجمع بين المبادئ الأخلاقية وممارسات العمل، أي تنفيذ الأمور السليمة أخلاقيًا وتنفيذ الأمور العملية على النحو السليم.

في البداية، من الأهمية بمكان اختيار الشركاء وفقًا لأرجحية الانسجام التي من شأنها إتاحة ظروف مواتية لتحقيق تعاون فعال. وهناك ثلاثة شروط جوهرية لإقامة شراكة جيدة.

أولًا، كما في الزيجات المُرتَّبة والزيجات القائمة على الحب على حدٍ سواء، يصبح التوافق عنصرًا رئيسيًا يجب التأكد منه قبل بدء العلاقة.

وهذا يعني اكتشاف ما إذا كانت أهداف الطرفين وقيمهما متوافقة معًا، وأن لديهما القدرة على تقاسم السلطة، وعلى الأخذ والعطاء. ويجب أن يستند التوافق هنا على وجود سمات متطابقة ومستوى عالٍ من التقارب، وأن يكون بين الطرفين قيمٌ وأهدافٌ مشتركة. فإذا كانت القيم والأهداف متباينة فلن تنجح العلاقة.

لذا من المهم قياس مدى توافق ثقافات العمل وأساليب اتخاذ القرارات بين الشريكين. وفي هذه الحالة، ليس من اللازم أن يوجد التوافق من خلال تطابق السمات بل يمكن أن ينشأ من تباينها. فقد تختلف ثقافات العمل وأساليبه اختلافًا كليًا بين شريكين ومع ذلك قد يكون ذلك هو السر وراء نجاح شراكتهما.

فربما يتسم أحدهما بالتروي ويتخذ القرارات وفقًا للإجراءات، في حين أن الآخر مندفع ويعمل وفقًا لحدسه. فربما يخلق هذا التباين توافقًا وتلائمًا مذهلين إذا ما استطاع كلٌ من الشريكين تقبل السمات المختلفة للآخر وتقديرها، وإذا كان أسلوب عملهما بنَّاءً في جوهره ويركز على المهمة.

أما العامل الرئيسي الثاني فهو التبادلية؛ التي تدور في الأساس حول ضمان وجود علاقة ذات اتجاهين في الشراكة بحيث يكون بمقدور كلا الشريكين مشاركة الأفكار والمهارات للتأثير في بعضهما البعض وتأسيس علاقة تُبرز أفضل جوانبهما.

والعناصر السحرية في هذه العلاقة هي المساواة، والإنصاف، والثقة، والشفافية، والتواصل، والمرونة. إذن، لتكون الشراكة تحويلية بحق ومستدامة يلزمها أن تقوم على المساواة بحيث لا يتسلط أحد الطرفين على الآخر ويقلل من احترامه. فربما تنجح الشراكة غير المتكافئة والتي تفتقر إلى الاحترام على المدى القصير، لكنها لن تدوم على المدى الطويل لأنها تتسبب في الكثير من الألم والحنق.

يختلف معنى الإنصاف عن المساواة. فقد يشعر الشريكان بأنهما على قدم المساواة في علاقات العمل والاحترام على المستوى الشخصي، لكن من المهم كذلك أن تظهر هذه المساواة بين الأشخاص وبين المنظمات بشكل واضح عبر التوزيع المنصف للموارد والنتائج، سواءً أكانت هذه مكاسب ميدانية أم منافع مالية أم تقدير عام.

CC BY-NC-ND / ICRC

في الشراكات بمجال العمل الإنساني بين المنظمات الوطنية والدولية، قد يؤدي عدم التكافؤ في السلطة، أي وجود طرف أكبر وأغنى ولديه علاقات تفوق الطرف الآخر، إلى ظهور مشكلات هيكلية عميقة تتعلق بمسألتي المساواة والإنصاف. فلن يكون من السهولة بمكان العمل عبر هذه الشراكة دون إجراء تحوّل كبير في الهيكل، ومشاركة الموارد من جانب الشريك الأكثر نفوذًا.

ويعد هذا الالتزام بالتغيير من جانب الشريك الأكبر – الذي يتخلى بموجبه هذا الشريك عن جزء من السلطة والموارد، في ما يعد تحوّلًا كبيرًا في نموذج العمل والسلطة – التزامًا جوهريًا بحق، ويلزم موازنته عبر تقديم دعم كبير في جانب التطوير التنظيمي للشريك الآخر، إذ تميل كفة الصلاحيات والموارد في صالحه. ولا أعلم في الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر (الحركة) سوى مثال وحيد على هذا، وهو الصليب الأحمر الأسترالي، الذي يحاول إجراء هذا التحوّل لمعالجة مسألة عدم تماثل السلطة والموارد.

كما لا تنفصل الثقة والشفافية عن المساواة والإنصاف، إذ يجب أن يكون بمقدور كل طرف وضع ثقته في شخصية وكفاءة الآخر حتى يتسنى لهما العمل معًا في جو من الثقة والصراحة. في النهاية، يعد التواصل والمرونة سمات رئيسية مشتركة بين الطرفين، فيجب أن يكون بمقدور الشريكين التواصل جيدًا معًا بما يتيح لهما فهم بعضهما على المدى الطويل. كذلك فالمرونة ضرورية لاستيعاب الثقافة والأساليب المختلفة لكل طرف، والوصول إلى صيغ توافقية والتوافق مع الطرف الآخر في الحالات التي يصعب فيها الاتفاق.

أما العامل الرئيسي الثالث فهو القيمة المضافة من كل شريك إلى الآخر وإلى الهدف والمهمة الأشمل. وهذا يعني تحقيق التكامل، وهي القيمة المضافة للإسهامات التي يقدمها كل شريك، فتنجح مسيرة الشراكة نحو تحقيق شيء جديد وقيّم.

ويجب تقييم هذه القيمة المضافة على المستويين النوعي والكمي، أي الأمور المادية التي يسهم بها الشريكان مثل الموارد، وحجم العمل أو عمقه، والمعرفة، والمهارات والمواقف. ولئن قلنا إن شروط إقامة شراكة جيدة هي التوافق والتبادلية والقيمة المضافة، فإن أغلب الجهود المبذولة في الشراكة تُكرّس لإنجاح هذه العوامل في الممارسة الفعلية للشراكة.

ليتضح الأمر للجميع:

تستغرق إقامة الشراكات وقتًا وتتطلب بذل الكثير من الجهد في العلاقات، وممارسات العمل المشتركة، والتعلم من الإخفاقات، وتقدير النجاحات.

تتطلب الشراكات بين المنظمات وجود سياسات وقواعد وإجراءات واضحة ومكتوبة تؤكد على أهداف مشتركة وتمكن انتهاج ثقافة عمل متفق عليها. في الوضع الأمثل، تصبح هذه الأمور عادية في مهاية المطاف، غير أن الطريق يكون صعبًا في بدايته، وتخضع الشراكات لامتحان حقيقي في أثناء عملية وضع هذه القواعد والاتفاق عليها قبل إبرام الشراكة ثم بعد ذلك تأخذ الأمور مجراها.

3- ما سمات العمل في إطار شراكة على الصعيد العملي؟

أود الآن أن أوضح بعضًا من الشراكات المختلفة التي تعمل من خلالها اللجنة الدولية. لا يسعني الوقت لإجراء تحليل مفصل للنوع والجودة المحددة لكل مثال، لكني آمل أن تقدم لكم هذه الأمثلة توضيحًا لما تحدثت عنه آنفًا، وبعض الفهم المتعمق لمجموعة الشراكات المتوسعة جدًا والمتنوّعة التي تعمل اللجنة الدولية في إطارها.

  • اللجنة الدولية والسلطات الوطنية

من بين شراكاتنا الكبرى والقائمة منذ زمن شراكاتنا القانونية والميدانية مع السلطات الوطنية. تُحتم علينا مهمتنا المتمثلة في نشر القانون الدولي الإنساني وتطويره أن ننشئ الكثير من الشراكات مع القوات المسلحة للدول في إطار الهدف المشترك المتمثل في تثقيف هذه القوات والمجتمعات الأوسع نطاقًا حول القانون الدولي الإنساني وتقديم المشورة لهم بشأنه. وللاضطلاع بهذا الدور أقمنا الكثير من الشراكات الطويلة الأمد مع سلطات الدول بشأن أهداف القانون الدولي الإنساني.

وفي الجارة ماليزيا، على سبيل المثال، أنشأنا المركز الإقليمي المشترك للتدريب على القانون الدولي الإنساني وتقديم المشورة بشأنه مع جامعة الدفاع الوطني ليصبح منبرًا لآسيا في هذا الشأن. والهدف من إقامة شراكة بناء المؤسسات العميقة هذه، التي تجمع بين مواطن القوة المتمثلة في اتخاذ ماليزيا قاعدة لها، وخبرة اللجنة الدولية، والمشاركة الفعالة من الدول الآسيوية، هو إنشاء مركز خدمة إقليمي في مجال التدريب على القانون الدولي الإنساني، وتقديم المشورة بشأنه، ووضع السياسات العسكرية.

على المستوى العالمي، اضطلعت اللجنة الدولية كذلك بدور تنظيمي مع دول شريكة متعددة بغية تنظيم منتدى سنوي رفيع المستوى تستضيفه الدول الشريكة سنويًا بالتناوب. وقد ترسخ لدى الدول إنشاء ورشة العمل المخصصة لكبار الضباط حول القواعد الدولية التي تحكم العمليات العسكرية (SWIRMO) باعتبارها حيزًا مهمًا لمشاركة التحديات والممارسات العملية. وقد استضافت الإمارات العربية المتحدة منتدى العام الماضي، وستستضيفه هذا العام روسيا. ولهذه الشراكة مع الدول طابع تحويلي واعد إذ تنطوي على مشاركة عدد كبير من الدول بانتظام لمناقشة التحديات الميدانية المتعلقة بالقانون الدولي الإنساني، وتكتسب اللجنة الدولية المزيد من المعرفة من خلالها.

كما يزخر عملنا في المجال الإنساني بشراكات ميدانية مع السلطات الوطنية ودون الوطنية. ويتجلى ذلك في تعاوننا مع السلطات المعنية بخدمات الإمداد بالمياه والصرف الصحي والطاقة والصحة وإدارتها. في الكثير من المدن عبر منطقة الشرق الأوسط التي تعاني من حروب شرسة وممتدة، تتمتع اللجنة الدولية بشراكات متينة وطويلة الأمد مع السلطات المسؤولة عن الإمداد بالمياه والطاقة، إلى جانب وزارات الصحة والزراعة.

وتركز هذه الشراكات تركيزًا شديدًا على القيمة المضافة المتبادلة والتكامل الذي تحققه اللجنة الدولية من خلال إمكانية إيصالها المساعدات الإنسانية، وخبرتها الفنية، ومواردها، وقدرتها على مواصلة العمل في أوقات النزاع، وتوفر البنية الأساسية لديها، وإمكانية وصولها إلى السلطات الوطنية والمحلية. وتنطوي هذه الشراكات على عقد اتفاقات حول الالتزامات المشتركة المعنية باستمرارية تقديم الخدمة، وفرق العمل المختلطة، والموارد المشتركة، ووضع الخطط الواضحة المتعددة السنوات.

كما تنطوي هذه الشراكات الميدانية مع السلطات الوطنية على أنشطة متنوعة مثل إصلاح محطات توليد الطاقة ومحطات معالجة المياه والعيادات والمستشفيات واستمرارها في العمل، أو مواصلة برامج تحصين الماشية وتوفير البذور الزراعية.

  • اللجنة الدولية والجمعيات الوطنية

تتسم "الشراكات العائلية" التي تحظى بها اللجنة الدولية مع الأعضاء الاخرين في الحركة بالعمق والتكامل وطول الأمد، حتى وإن كانت تنطوي في بعض الأحيان على تفاوت في ميزان السلطة والموارد لصالح اللجنة الدولية، وهو ما لا يفي بشروط المساواة وتبادل القيمة المضافة، وقد يكون محبطًا للجمعيات الوطنية.

CC BY-NC-ND / ICRC

في كل بلد تعمل فيه اللجنة الدولية، تتحد الجمعيات الوطنية والمتطوعون بها مع اللجنة الدولية لإضافة قيمة هائلة إلى الحجم والعمق ووثاقة العلاقات التي بمقدور الحركة أن تعمل من خلالها.

من شأن البصمة الوطنية لفروع الجمعيات الوطنية والأعداد الغفيرة من المتطوعين بها أن يوسع نطاق وصول عمليات اللجنة الدولية وحجم عملها عبر زيادة "حيز العمليات الميدانية" زيادة كبيرة.

إن العمل المباشر الذي يضطلع به آلاف المتطوعين الذين يتولون عادة الاتصال الشخصي مع المتضررين والمستفيدين في عمليات توزيع مواد الإغاثة أو تقديم الخدمات الصحية أو خدمات إعادة الروابط العائلية، يضفي طابعًا من الود والتقارب الثقافي على عمل الحركة، وهي أمور لا تستطيع اللجنة الدولية تحقيقها بمفردها.

وبفضل هذا القرب والاتصال المباشر بالمتطوعين والضحايا أنفسهم، تحقق الحركة النجاح في شراكاتها الشخصية العميقة ذات المضمون الإنساني، إذا ما نُفِّذ العمل على النحو السليم.

ومع دخولنا عصر أزمة المناخ، فقد أصبح الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر (الاتحاد الدولي) و«مركز المناخ» التابع له شريكًا تتزايد أهميته بالنسبة إلى اللجنة الدولية، إذ تتفاعل اللجنة الدولية مع الناس الذين يكابدون الآثار المزدوجة للصدمات التي يتسبب فيها النزاع وتغير المناخ على حياتهم.

ويجب أن تستفيد اللجنة الدولية من معرفة الاتحاد الدولي العميقة بالسياسات والممارسات المعنية بالاستجابة لتغير المناخ والحد من مخاطر الكوارث والتكيف، فتصبح نهجًا أساسيًا في طريقة عملنا.

وبما أننا نسعى حاليًا إلى أن نصبح منظمة "تراعي المخاطر المناخية"، فإننا ننتفع كذلك من التطوير التنظيمي الذي يُجريه الاتحاد الدولي. إن شراكتنا الحالية مع «مركز المناخ» في سياق عملنا على وضع سياستنا، وتطوير خبرتنا وشبكة اتصالاتنا المعنية بمجال التصدي لمخاطر المناخ قد بدأت بالفعل في التحوّل إلى شراكة تحويلية لكلا الطرفين: إذ تتعلم اللجنة الدولية مهارات التعامل مع مخاطر المناخ، أما مركز المناخ فيُطور فهمًا أفضل للأثار المجتمعة للنزاع وتغير المناخ.

  • اللجنة الدولية وعائلات المفقودين

ننشئ كذلك شراكات مهمة على مستوى المجتمع المحلي مع منظمات المجتمعات المحلية التي تنشئها مجموعات الضحايا. ومن الأمثلة الجيدة على هذه الشراكات عملنا في مجال البحث عن المفقودين ومساعدة عائلاتهم.

CC BY-NC-ND / ICRC / Singapore Red Cross

أنشأنا شراكات طويلة الأمد في بلدان مثل جورجيا، ونيبال، وبيرو، وكوسوفو، كولومبيا مع رابطات أسر المفقودين المحلية والوطنية من أجل تحديد مصير المفقودين وتقديم الدعم لعائلاتهم. وغالبًا ما تظهر القيمة المضافة التي نقدمها في هذا المجال في جهود التيسير المحايدة بين الرابطات المحلية والسلطات العامة، بالإضافة إلى خبرتنا الفنية في مجال الطب الشرعي. أما الباعث على إقامة هذه الشراكات فهو تحقيق هدف مشترك، ألا وهو حصول العائلات على "حقها في معرفة" ما حلّ بأقاربها المفقودين.

  • اللجنة الدولية والكويت

تتسم كذلك الشراكات الدبلوماسية بأهمية بالغة للجنة الدولية.

فالمفقودون أيضًا كانوا سببًا في إقامة شراكة دبلوماسية مهمة مع دولة الكويت، ذلك البلد الذي عانى مأساة محزنة تتعلق بالمفقودين. وهذه واحدة من شراكات دبلوماسية كثيرة عقدتها اللجنة الدولية مع الدول التي تسعى لتحقيق أهداف مشتركة في مجال الدبلوماسية الإنسانية.

ففي عام 2018، أعطت الكويت واللجنة الدولية الأولوية للمساعي الدبلوماسية في قضية المفقودين باعتبارها هدفًا مشتركًا بينهما، وعملنا عن كثب معًا من خلال فرق العمل المعنية بالسياسات وبالجوانب القانونية والدبلوماسية لدعم الكويت في تحقيق هدفها الذي كُلل بالنجاح بصدور أول قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حول المفقودين نتيجة النزاعات المسلحة، وهو قرار مجلس الأمن رقم 2474 الصادر في حزيران/يونيو من هذا العام.

  • اللجنة الدولية والبنك الدولي

تعد شراكتنا مع البنك الدولي مثالًا على الشراكة المؤسسية الكبرى التي يُقصد منها تحوّل البنك واللجنة الدولية على السواء. ويهدف التعاون الرسمي بيننا إلى توسيع نطاق عملياتنا وخبراتنا وسياستنا ودبلوماسيتنا بشأن المناطق المتضررة من النزاعات والعنف والأوضاع الهشة.

CC BY-NC-ND / ICRC / Singapore Red Cross

تتسم الممارسة الإدارية لهذه الشراكة بالتفصيل والكثافة نظرًا لسعينا للجمع بين عمل اللجنة الدولية الإنساني القائم على المبادئ والمرتكز بقوة على الثقة من جانب، وثقافة وعمليات المُساءلة وقياس الأداء الراسخة التي يتميز بها البنك الدولي من جانب آخر. وهذه الشراكة تضع كلا الشريكين في اختبار حقيقي، لكنها تعني أيضًا أنهما يوسعان نطاق عملياتهما: استطاع البنك الاستثمار في مناطق بالصومال وجنوب السودان لم يكن بمقدوره العمل بها من قبل بطبيعة الحال، واللجنة الدولية استطاعت توسيع عملياتها وتأمينها إلى الأمد المتوسط. وعليه، يتعلم كلا الطرفين أمورًا جديدة.

  • اللجنة الدولية ورابطة (آسيان)

استثمرنا كذلك في إقامة شراكة دبلوماسية ويحتمل أن تكون استشارية مع رابطة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان) هنا في منطقة جنوب شرق آسيا. وهذه العملية التي لا تزال في بداياتها جعلتنا نقضي بعض الوقت في المشاركة في مناقشات رابطة (آسيان) والتعلم من نهجها.

فنحن في اللجنة الدولية تعلمنا أمرين مهمين للغاية من رابطة (آسيان)؛ أهمية نهج القدرة على الصمود في وجه الكوارث التي تشهدها منطقة جنوب شرق آسيا، وأولوية السيادة، والقيادة الوطنية، والوكالات المحلية في تنفيذ العمل الإنساني.

وقد أسفر هذا التفاعل عن تغيير نهجنا الإنساني في منطقة جنوب شرق آسيا، وأضاف قيمة لطريقة عملنا في جميع أنحاء العالم. كما جعل اللجنة الدولية ورابطة (آسيان) تقيّمان بدقة السبيل الذي يمكن للجنة الدولية من خلاله تقديم قيمة مضافة عبر المنطقة دون التدخل في شؤونها.

واتفق الطرفان أن ثمة دور تكميلي يمكن أن تسهم به اللجنة الدولية في الجهود الوطنية والاستجابة الإقليمية في مجالي الإدارة الكريمة لشؤون الموتى، والصحة النفسية والدعم النفسي والاجتماعي.

4- كيف يمكن للجنة الدولية تحسين أدائها للارتقاء بعلاقة الشراكة؟

في النهاية، أود أن أشارككم بعض الأفكار حول الأمور التي يمكن للجنة الدولية أن تفعلها لتصبح شريكًا أفضل. وأعتقد أنه يلزمنا التركيز على ثلاثة أمور في هذا الشأن:

CC BY-NC-ND / ICRC

أولًا، يلزمنا تحديد أولوياتنا والتزام نهج استراتيجي في شراكاتنا. فقد يؤدي حماسنا للعمل مع الآخرين إلى الاستعجال في إبرام عشرات مذكرات التفاهم والشراكات المنظَمة مع الجميع دون تحقيق ثمرة ملموسة.

لكن ربما من الأفضل أن تمعن البعثات والفرق العاملة بالمقر الرئيسي التفكير بعناية في المجالات التي يمكنها تحقيق فائدة حقيقية من الشراكات التحويلية، وبذل كل ما في وسعها لكي تعمل هذه الشراكات بنجاح. ومن شأن هذا أن يدفعنا لاغتنام الفرص والمخاطرة لكن في المجالات التي نعرف أنها مهمة لعملنا في المستقبل.

ثانيًا، علينا أن نكون مستعدين للتغيير ولتقاسم السلطة أكثر من استعدادنا للتشبث بها. غير أن تنفيذ ذلك من الصعوبة بمكان للجنة الدولية. فقد نمت المنظمة في السنوات الأخيرة واتسعت بدرجة كبيرة. لكن علينا الآن أن نشارك ما حققناه من نمو، وهذا يعني الاستماع إلى الآخرين، وخلق مناخ للعمل يسوده العدل والمساواة، والحرص على العلاقات المتبادلة، والتحوّل من كائن ضخم كالفيل إلى كائن ذكي كالثعلب.

ثالثًا، علينا تنمية مهارات إقامة شراكات جديدة ومقاييسها حتى نصبح "ملائمين لإقامة شراكات". وهذا يعني تغيير المواقف والعمليات بهدف تحسين قدرتنا على العمل مع الآخرين وتقدير النتائج التي نحققها معًا، وليس فقط الاعتزاز بالمخرجات التي تقدمها اللجنة الدولية بمفردها.