بيان

ضرورة التحرك العاجل لتقليص مخاطر الأسلحة النووية

ندوة مخاطر الأسلحة النووية، معهد الأمم المتحدة لبحوث نزع السلاح، جنيف، سويسرا - كلمة المدير العام للجنة الدولية للصليب الأحمر، السيد إيف داكور.

اسمحوا لي أن أثني على "معهد الأمم المتحدة لبحوث نزع السلاح" لإنجازه البحث المهم الذي أجراه بهدف تعميق الفهم بمخاطر الأسحلة النووية. وجهود "معهد الأمم المتحدة لبحوث نزع السلاح" في هذا الإطار تنهض على الدلائل المثيرة للقلق بشأن الخطر المتنامي المتعلق بأن تُطلَق الأسلحة النووية من عِقالها عن قصد أو دون قصد أو بخطأ حسابي. (وقد تحدث السيد ويليام ج. بيري ببيان بليغ لتوّه عن هذا الخطر في حديثه المصوّر).

ومن المسلّم به على نطاق واسع في وقتنا هذا أن استخدام الأسلحة النووية من شأنه أن يخلّف عواقب إنسانية كارثية، تصحبها معاناة على نطاق يفوق كل تصوّر في ما يتعلق بآثارها المباشرة وآثارها على المدى البعيد على الناس والمجتمعات وأنظمة الرعاية الصحية والبيئة. وعلى ذلك، تقع على كاهل المجتمع الدولي مسؤولية أخلاقية لضمان عدم استخدام الأسلحة النووية مرة أخرى أبدًا – بمعنى، ضمان خفض مؤشر الخطر الخاص بإطلاق الأسلحة النووية إلى مستوى الصفر. وفي موضع لاحق من كلمتي هذه سأوجزُ بعض التدابير التي يجب على الدول اتخاذها، كلٌّ على حدة أو مجتمعة، تحقيقًا لهذا الهدف.

لكن اسمحوا لي، بادئ ذي بدء، أن أكشف أمامكم أوراقي كلها: لطالما دعت الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر – واللجنة الدولية أحد مكوناتها - منذ عام 1945 إلى حظر الأسلحة النووية وإزالتها. ودعوتنا هذه كان محركها في المقام الأول المعاناة التي تعجز الكلمات عن وصفها التي نجمت عن القنبلتين الذريتين اللتين ألقيتا على هيروشيما ونجازاكي، وهي معاناة رآها موظفو اللجنة الدولية وجمعية الصليب الأحمر الياباني بأمّ أعينهم عندما كانوا يحاولون إغاثة المحتضِرين والمصابين. وبعد انقضاء 72 عامًا على تلك الحادثة، مازلنا شهودًا على الآثار طويلة المدى للأسلحة النووية، إذ ما تزال مستشفيات الصليب الأحمر الياباني تقدم العلاج لآلاف عديدة من ضحايا مرض السرطان الناجم عن التعرض للإشعاع.

وقد استرشدت نداءات الحركة الدولية الداعية إلى حظر الأسلحة النووية وإزالتها بحقيقة مفادها أنه في حال استخدام أسلحة نووية فإننا سنعجز عن تقديم أية استجابة إنسانية ذات جدوى. والواقع ينبئنا بأنه إذا ما فُجِّر سلاح نووي في منطقة مأهولة بالسكان أو بالقرب منها فسيكون عدد الضحايا المحتاجين إلى العلاج ضخمًا للغاية، بالإضافة إلى أن الانفجار سيدمر غالبية المرافق الطبية المحلية. وسيواجه مقدمو المساعدات أيضا مخاطر بالغة تتعلق بتعرضهم لإشعاع مؤيِّن. لقد توصلت الدراسات التي أجرتها اللجنة الدولية وتلك التي أجرتها منظمات أخرى مثل "معهد الأمم المتحدة لبحوث نزع السلاح" إلى وجود مقدرة محدودة وغياب للخطط الواقعية أو المنسَّقة في غالبية البلدان لمواجهة هذه التحديات الهائلة.

في عام 2011 ناشدت الحركةُ الدولية جميعَ الدول حظرَ استخدام الأسلحة النووية وإزالتها كليةً عن طريق اتفاق دولي ملزم قانونًا، استنادًا إلى التزاماتها القائمة. لذلك، رحبنا بالتفاوض بشأن التوصل إلى معاهدة لحظر الأسلحة النووية، وهو سارٍ في مجراه في الوقت الحالي في إطار عمل الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وتعتقد اللجنة الدولية أن هذه المفاوضات تشكّل فرصة سانحة لتحقيق تقدم نحو نزع السلاح النووي، وقد وجّهنا الدعوة إلى جميع الدول لاغتنامها. وفي اعتقادنا أن إبرام معاهدة لحظر الأسلحة النووية خطوةٌ أساسيةٌ من أجل "تهيئة الظروف من أجل عالمٍ خالٍ من الأسلحة النووية"، كما قرر اجتماع القمة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عام 2009. ومن شأنها أيضًا أن تكون خطوة ملموسة نحو تنفيذ الالتزام "بمواصلة إجراء المفاوضات اللازمة، بحسن نية، عن التدابير الفعالة" المتعلقة بنزع السلاح النووي، بحسب ما توجبه المادة السادسة لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية لعام 1968، وكما أكدتها محكمة العدل الدولية في عام 1996. وسوف تعزز معاهدة حظر الأسلحة النووية الوصمَ المرتبط باستخدام هذه الأسلحة وستكون عاملاً مثبطًا لانتشارها، إلى أن تأخذ عملية إزالة الأسلحة النووية مجراها فعليًا.

وبطبيعة الحال، لن تختفي الأسلحة النووية على الفور إذا ما أُقرَّت معاهدة بحظرها. وما دام بقاء هذه الأسلحة قائمًا، ستستمر خطورة وقوع تفجير عن طريق الخطأ أو عمدًا، وما يعقبه من تهديد تشكّله العواقب المروّعة التي سيواجهها الناس والمجتمعات حول العالم. وقد أشار الرئيس الصيني السيد شي جين بينغ إلى الأسلحة النووية بوصفها "سيفا مسلطا على رقبة الجنس البشري"، وأكد ضرورة حظرها وإزالتها كليةً بمرور الوقت، في كلمته أمام الأمم المتحدة في جنيف في كانون الثاني/يناير الماضي.

 ومع أن بعض الدول قد لا تكون مستعدة في الوقت الحالي للانضمام للمفاوضات الرامية إلى إبرام معاهدة لحظر الأسلحة النووية، إلّا إنها تدرك بكل تأكيد الضرورة القصوى للحيلولة دون استخدام تلك الأسلحة. وبغض النظر عن آراء الدول بشأن إبرام معاهدة حظر، ينبغي عليها جميعًا أن تقرّ بأن أيَّ خطر ناجم عن استخدام الأسلحة النووية غيرُ مقبول، وذلك بالنظر إلى عواقبه الإنسانية الكارثية حتى إن كان استخدامها على نطاق محدود.

تؤمن اللجنة الدولية أن الجهود الرامية إلى خفض مستوى المخاطر يمكن أن تشكّل أرضية مشتركة للحوار بين الدول المشتركة في التفاوض بشأن إبرام معاهدة لحظر الأسلحة النووية والدول الأخرى غير المستعدة بعد لدعم هذه الجهود. إن خفض المخاطر خطوة متوسطة يمكن للدول النووية وحلفائها – بل ويجب عليهم – السعي إليها، لحين تنفيذ التزاماتها بنزع الأسلحة النووية. ويجب التحرك الآن. فالمخاطر عالية للغاية والمهلكاتُ حقيقة.

ونحن نعلم اليوم أن الخلل الوظيفي والحوادث المؤسفة والإنذارات الكاذبة والمعلومات المُساء تفسيرها أفضت إلى – أو كادت تفضي إلى – تفجيرات عمدية أو عن طريق الخطأ لأسلحة نووية في مناسبات عديدة منذ العام 1945. وفي دراسة حديثة وثّق معهد "تشاتام هاوس" 13 حادثة "استخدام وشيك" لأسلحة نووية نَجَمت عن أخطاء حاسوبية، وخطأ حسابي والإخفاق في التواصل وتعطل نظم السيطرة والتحكم. وهذه هي الحالات المُعلن عنها فقط.

ووثّقت "الحملة العالمية للقضاء التام على الأسلحة النووية" زهاء 320 "حادثة عسكرية" تخص دولاً نووية وحلفائها خلال مدة عامين آخرها آذار/مارس 2016. ومن بين هذه الحوادث صُنِّفت 25 حادثة بوصفها ذات "مخاطر عالية" و 76 حادثة أخرى "استفزازية". وكل حادثة منها استتبعها مخاطر التصعيد وسوء التقدير.

ويضاف إلى هذه المخاوف التهديدات الإلكترونية باختراق نظم التحكم النووية. لقد أصبحت التكنولوجيا الرقمية جزءً لا يتجزأ من نظم الإنذار بوقوع هجوم نووي وشبكات التحكم. وهذا مدخلٌ محتملٌ أمام قراصنة الحواسيب الآلية لاقتحام مثل هذه النظم وافتعال إنذارات كاذبة بوقوع هجوم وشيك أو، وهو الأسوأ، تمكُّنهم من الولوج إلى شفرات الإطلاق ودوائر التحكم. وعلى الرغم من الجهود المكثفة لحماية مثل هذه الشبكات، فقد سُجّلت ثغرات أمنية.

ومؤخرًا توصل عدد من الخبراء الأمنيين والعسكريين البارزين (مثل ويليام ج. بيري) إلى أن خطر إطلاق الأسلحة النووية اليوم بلغ مستويات لا عهد لنا بها منذ الحرب الباردة. وهذا أمرٌ مثير للقلق إلى أبعد مدى. وهو أدعى أن يجبر الدول النووية وتلك التي تعيش تحت مظلة نووية إلى التعجيل بتنفيذ التزاماتها السياسية القائمة منذ عهد طويل بتقليص الأخطار النووية، بما في ذلك الالتزامات المعلن عنها في خطة عمل "مؤتمر الأطراف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية لاستعراض المعاهدة عام 2010" وفي قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة.

واسمحوا لي أن أوجز هنا بعض الإجراءات الرئيسية والخطوات العملية التي نشعر بأنها ضرورية لتقليل المخاطر النووية، وهي مستمدة من الالتزامات القائمة.   

أولاً، تبرز على المدى القريب الحاجة الملحة لخفض التأهب التشغيلي للأسلحة النووية. وينطوي هذا الإجراء على إبعاد الأسلحة النووية عن نطاق تأهب "أقصى حالات الاستنفار". وإن "إلغاء حالة التأهب" أمر ضروري على مسار تقليل الخطر الماثل دومًا بأن الأسلحة النووية ستنفجَّر بسبب تحذيرات كاذبة أو هجوم إلكتروني أو اتخاذ قرار أرعن في الأوقات المشحونة بتوتر بالغ. ومع وجود ما يقدر بحوالي 1800 رأس نووية أمريكية وروسية موضوعة في أقصى حالات الاستنفار، بالإضافة إلى تقارير تتحدث عن أن الدول النووية الأخرى ربما تتحرك لاتخاذ وضع تأهب سريع مماثل كردّ فعل، فإن الدعوة إلى إلغاء حالة التأهب لإطلاق الأسلحة النووية يجب أن يحتل أولوية قصوى بالنسبة لجميع الدول. 

ثانيًا، يجب على الدول التي تمتلك أسلحة نووية أن تفي بوعدها الذي قطعته على نفسها في "مؤتمر الأطراف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية لاستعراض المعاهدة لعام 2010" بتقليص دور الأسلحة النووية وأهميتها في السياسات الأمنية الوطنية، والإطلاع على الخطوات المتَّخَذة تحقيقًا لهذه الغاية. إن تقليص هذا الدور تدريجيًا لن يقلل من خطر الاستخدام المقصود أو غير المقصود للأسلحة النووية وحسب، بل سيقلل أيضًا من الاعتماد العسكري على هذه الأسلحة وسيساعد على تهيئة الظروف لإزالتها. غير أن التقارير التي تتحدث عن أن بعض الدول تستثمر بكثافة في تحديث ترساناتها النووية تتعارض مع التزاماتها. وهذا التوجه مثيرٌ للقلق للغاية، إذ في هذا السياق الذي تهيمن عليه حاليًا توتراتٌ دولية استدعى بعضُ الأطراف احتمال استخدام الأسلحة النووية. وهذا، بكل بساطة، طرحٌ غير مقبول.      

ثالثًا، في ضوء تاريخ التحذيرات الكاذبة والأخطاء الحسابية المتعلقة بالأسلحة النووية، وأخذًا في الاعتبار البيئة الأمنية المعقَّدة لعالمنا اليوم فإننا نحثّ الدول النووية على الاتفاق بشأن وضع تدابير ملموسة لبناء الثقة تهدف إلى تقليص احتمالات الاستخدام المتعمد أو غير المتعمَّد للأسلحة النووية. وهذه التدابير تشمل التحذير المسبق وتدابير أخرى للكشف عن النوايا من وراء التدريبات التي تشمل نُظمًا ذات مقدرة نووية ونشر السفن النووية أو الطائرات النووية بالقرب من مناطق لأعداء محتملين. ويمكن أيضًا أن تشمل التدابير إقامة مركز مشترك للإنذار المبكر، مثل ما سبق أن اتفقت عليه بعض الدول النووية. ولطالما كان لمثل هذه التدابير الرامية إلى بناء الثقة حضورها على جدول الأعمال الدولي. وهي خطواتٌ جوهرية لتقليص المخاطر ويجب إيلاؤها أولوية أكبر.      

وسيكون من المهم للغاية بالنسبة للدول الأطراف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية البالغ عددها 191 دولة، خلال الاجتماع التحضيري الأول لمؤتمر استعراض معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية لعام 2020 المنعقد في فيينا الشهر المقبل - إعادة التأكيد على أهمية الالتزامات بتقليص الخطر النووي؛ وبالنسبة للدول النووية سيكون من المهم للغاية تجديدها لهذه الالتزامات وإعداد تقرير بشأن الخطوات العملية التي اتخذتْها في سبيل تنفيذها. إن تقليص خطر استخدام الأسلحة النووية ضرورةٌ إنسانية.

ويجب ألّا تغرينا حقيقةُ عدم استخدام الأسلحة النووية منذ سبعة عقود بالطمأنينة أو الركون إلى الرضى. وما دام وجود هذه الأسلحة مستمرًا، ستظل الإنسانية تواجه خطرًا حقيقيًا بوقوع كارثة نووية. وإجمالاً، فإن الحيلولة دون استخدام الأسلحة النووية يصبّ في جوهر مصالح الدول كلها، وهو أحد الشواغل العالمية.

وفي النهاية، فإن الضمان الوحيد بألّا تستخدم الأسلحة النووية مرة ثانية أبدًا يرتكز على حظرها وإزالتها. والمفاوضات الحالية لإبرام معاهدة لحظر الأسلحة النووية هي الفرصة الأمثل لتحقيق تقدم حقيقي نحو الهدف العالمي المتطلّع إلى عالمٍ خالٍ من الأسلحة النووية. يجب على جميع الدول أن تشارك في هذا المسعى؛ فمستقبل البشرية بأسرها رهنٌ بذلك.