مقال

السودان: رجوعٌ مشهودٌ إلى راجا!

قبل عدة سنوات، مركبة رباعية الدفع تشق طريقها مسرعة داخل منطقة يقطنها مجتمع محلي حاملة مجموعة من الرجال المسلحين. تتعلق عيون الصغار بالمركبة التي تقطع طرقات البلدة الرئيسية ذهابًا وإيابًا، في حين يتباهى راكبوها ويستعرضون قوتهم في مشهد يأسر ألباب الشباب. وقد انجذب بعض الصبية في البلدة للمشهد، كونهم سريعي التأثر، فتبعوا الشاحنة مهرولين، ليختفوا في ظروف غامضة، في ما يبدو إلى الأبد.

لم تعلم عائلاتهم أين ذهب أطفالها، وتعذر عليها تحديد ما إذا كانوا قد سافروا إلى مكان ما، أم لقوا حتفهم، أم اختُطِفوا، أم ضلوا طريقهم داخل الأحراش والتهمتهم بعض الحيوانات الضارية. وأصبحت فترة غيابهم كابوسًا لا تستيقظ منه العائلات أبدًا.

أما الأطفال، فغالبًا ما يجدون أنفسهم فجأة داخل معسكر تابع لإحدى الجماعات المسلحة، حيث يجري تدريبهم وتسليحهم ليصبحوا جزءًا من قوة مقاتلة. ينضم الأطفال بعد ذلك إلى الجماعة في حملاتها المختلفة حتى يأتي صباح يوم محتوم ويقعون في أيدي خصم لها ويؤخذوا إلى مكان بعيد.

أحد هؤلاء الذين أُلقي القبض عليهم كان «*لومينوس رامسييل»، الذي نُقل وغيره من المقاتلين إلى مكان احتجاز ثم فُصلوا عن غيرهم من المحتجزين لكونهم أطفال. بعد التحقيق معهم، سُلِّموا إلى منظمة دولية متخصصة في رعاية الأطفال. لتتسلمهم لاحقًا جمعية مدنية سودانية ترعى الأطفال وتسعى على الفور إلى إلحاقهم بالمدرسة. تم الاتصال باللجنة الدولية للصليب الأحمر (اللجنة الدولية) بشأن الأطفال وبدأت المنظمة في البحث عن آبائهم وأفراد عائلاتهم، مستعينة في ذلك بمواردها كافة فضلًا عن شبكة الصليب الأحمر والهلال الأحمر.

في الفترة الفاصلة بين اختفائهم ووصول خبر العثور عليهم إلى أفراد عائلاتهم، عصف القلق بذويهم وخطر ببالهم الكثير من الأسئلة: أين هم؟ ماذا حدث لهم؟ هل لقوا حتفهم؟ هل ظلوا في جنوب السودان منذ أن أصبحوا في عداد المفقودين؟ هل سنراهم أحياء مجددًا؟ لكن لم يكن لدى أحد إجابة عن أي من هذه الأسئلة!

للمرء أن يتخيل مشاعر الارتياح والسعادة الغامرة التي اجتاحت أقارب «لومينوس» عندما نجحت اللجنة الدولية أخيرًا في تحديد مكان عائلته في «راجا» على بُعد 950 كيلومترًا شمال غرب جوبا في جنوب السودان. بدأت اللجنة الدولية بعد ذلك بحث شتى جوانب عملية لمّ الشمل ومناقشتها لإعادة المقاتل الذي كان طفلًا في ما مضى إلى عائلته. لم يصدق «لومينوس» أنه سيعود إلى منزله وسيرى أفراد عائلته مجددًا، وتساءل ما إذا كانوا سيتعرفون عليه وكيف سيستقبلونه. وربما مرت أمام عينيه ذكريات طفولته ونشأته، وتساءل أيضًا عما إذا كان أي من أصدقاء طفولته لا يزال هناك، وكيف هي أحوالهم الآن.

في النهاية، حان اليوم المحدد للمّ شمل «لومينوس» بعائلته، وكان يوم مشهودًا له ولعائلته على السواء. لقد أعدته اللجنة الدولية إعدادًا ملائمًا للرحلة، وحصل على ملابس لائقة للمناسبة. فارتدى قميصًا أزرق اللون وبنطالًا من الجينز وحذاءً رياضيًا أبيض ونظارة شمسية، لم يكن يشبه الطفل الذي اختفى من البلدة قبل سنوات كثيرة مضت. ورغم أنه ما زال طفلًا، فقد نضج وتعلم الكثير عن الحياة. لقد مرَّ بظروف بالغة الصعوبة لكنه كان محظوظًا لأنه ظل على قيد الحياة، فالكثير ممن مرَّوا بتجارب مشابهة لتجربته لم يعيشوا ليحكوا لنا قصصهم.

سافر «لومينوس» برفقه موظفي اللجنة الدولية من بعثتها في الخرطوم (وهي المدينة التي بدأت منها رحلته) على متن رحلة طيران تجارية إلى جوبا لتلقاه بعثة اللجنة الدولية هناك. وانتقل من جوبا على متن طائرة اللجنة الدولية إلى راجا، ثم استقل هناك سيارة دفع رباعي إلى بلدته لتتلقاه أحضان عائلته وأقاربه وأصدقائه المتشوقين للقائه. كانت لحظة مؤثرة للغاية ستظل عالقة في أذهان «لومينوس» وعائلته إلى الأبد، ويرجع الفضل في ذلك إلى جهود بعثتي اللجنة الدولية في الخرطوم وجوبا.

وبينما يفكر «لومينوس» في ما يخبئه له المستقبل في بلده وبين أحضان عائلته الحبيبة، تواصل اللجنة الدولية عملها إذ تكثف بحثها عن عائلات الأطفال الآخرين الذين تسبب النزاع المسلح والعنف في انفصالهم عن أحبائهم.

*لومينوس رامسييل اسم مستعار وليس اسمه الحقيقي.

لمّ شمل العائلات أحد الأنشطة المهمة التي تنفذها اللجنة الدولية وشركاؤها في إطار برنامجها للحماية.